تستبعد النظرة التقليدية السائدة وجود أي دور لجهات أخرى عدا الدول والحكومات والسلطات والجماعات المسلحة في الصراعات المسلحة، بحكم ما تملكه الأخيرة من قوة عسكرية تستطيع بسط نفوذها وترجمة إراداتها على الأرض، لكن التجربة أظهرت أن للمنظمات الإنسانية غير الحكومية، قوة ناعمة يمكن أن يكون لها دور مهم في تحقيق السلام والاستقرار، لجملة من السمات التي تملكها.
ليست لدى المنظمات الإنسانية تلك القوة القسرية التي تمكنها من فرض التدابير بالقوة، مما يجعلها مرغوبة، لدى القادة المحليين في بعض الأحيان، أكثر من الدول أو الهيئات الدولية، لاستكشاف الافتراضات والتعبير عن الاحتياجات والمطالب.
كما أن بإمكانها أن تكون طرفا محايدا، دون تفضيلات أو أولويات خاصة خلافا للمحاربين، حين تعمل كبوصلة أخلاقية، منحازة نحو معايير العدالة، دون تفضيل لأي من المجموعات المتحاربة في حد ذاتها.
من ناحية أخرى، فإن ما يفترض من استقلال المنظمات الإنسانية عن الدول والفئات المعنية بالنزاع، يتيح لها حرية اتباع استراتيجيات متنوعة، وقول أشياء لا تستطيع الحكومات قولها، نظرا لأن المنظمات الإنسانية تعتمد على سلطة الناس والسلطة الأخلاقية بدلا من القوة، فيمكنها استخدام استراتيجيات مبتكرة وخلاقة وغير قسرية لإقناع الناس بالمشاركة في العمليات السلمية القائمة على الحوار، وبإمكانها التدخل لتقليل التوترات.
وبحكم عمل المنظمات الإنسانية في البلدان في مرحلة ما قبل الصراع، فإنها مع حلول الوقت الذي يبدأ فيه الصراع، تكون قد طورت خبرتها حول الثقافة المحلية والظروف ومجالات الحاجة، وأقامت علاقات مع القادة المحليين والمجتمع المدني والحكومة، هذه المعرفة المحلية تجعل المنظمات الإنسانية من المرشحين الرئيسيين للإنذار المبكر والاستجابة.
الخبرة السابقة للمنظمات الإنسانية في بلد ما تمنحها ميزة وجود الهياكل التنظيمية القائمة والمستعدة للاستجابة، فالموظفون الميدانيون موجودون بالفعل «على الأرض»، ولديهم مكاتب ووسائل نقل ومعدات، كما أن بإمكان المنظمات تعديل برامجها بشكل مناسب لحساسية الصراع والاستمرار صعوبات كبيرة.
إضافة الى ما سبق، تملك المنظمات الإنسانية ميزة الالتزام طويل الأمد، وقد اتفقت جميع نماذج الاستجابة للنزاع على أن المشاركة طويلة الأجل ضرورية للتدخل الجيد في النزاع، وخلافا للدول المقيدة بالإرادة السياسية والفئات المعنية ذات المصالح الخاصة، والمنظمات المشتركة بين الدول التي قد تفضل العمل في مكان أخر، يمكن للمنظمات الإنسانية استثمار الوقت في ترسيخ المصداقية مع الأطراف المتنازعة، واكتساب الإلمام بالقضايا والعوامل النفسية الكامنة وراء النزاع، كما يمكنها البقاء لفترة طويلة بعد توقيع اتفاقية السلام لتسهيل المصالحة وإعادة الإعمار وتطبيق العدالة.
إن استثمار المنظمات الإنسانية، وما تملكه من سمات، بات ضرورة بحكم انتشار وتعقد الصراعات في عالمنا المعاصر، وباتت إدارة الصراعات لا تعتمد فقط على الوسائل العسكرية، بل شملت مهاما مثل إعادة البناء الاقتصادي، والإصلاح المؤسسي، وتحسين فرصة النجاح في احتواء العنف وتحقيق بناء السلام، بما يملي أهمية التعاون بين الجهات المدنية، ومنها المنظمات الإنسانية، وتلك العسكرية لإدارة الصراع والتدخل الإنساني.
[email protected]