في يوم مكفهر، من أيام المنتصف من مايو 1948، نبت الاسم المزعج المحزن، اسم (النكبة)، الذي اصطلح المؤرخون والسياسيون على وسم تلك الأيام به، تلك النكبة التي ابتدأت (فعليا) مع إنهاء بريطانيا انتدابها على فلسطين في ليلة الـ 14 من مايو 1948م، لتقوم الدولة الصهيونية في الـ 15 من مايو، وبدأت معها (كوابيس) نزوح الفلسطينيين وشتاتهم عن الوطن، وعن منازل الصبا، لتتعلق بعقبها (أحلام) عودتهم لأول منزل. في ذاك اليوم الكالح سواده، هجمت عصابات الهاجاناه الصهيونية على العرب في المدن والقرى الفلسطينية، لترتكب مجازر، قيل أنها عنيفة شنيعة، وصدق قولها هذا سقوط 15 ألف قتيل فلسطيني، ووقوع أكثر من 50 مذبحة، وارتكاب تلك العصابات جريمة التطهير العرقي في حق 531 قرية ومدينة فلسطينية، وتهجير أكثر من 780 ألف فلسطيني. منذ ذاك اليوم الأغبر بدأ مصطلح (اللجوء) و(النزوح) يعرف طريقه إلى الأدبيات العربية، وبدأت معها قضية تنافس في الدفاع عنها (الصادقون) و(المتاجرون) على حد سواء، وكتب عن تلك المآسي المؤرخون والكتبة والسياسيون وشهود العيان في مذكراتهم، فظهرت مذكرات «غربة الراعي»للأديب إحسان عباس الذي أودع فيها خلاصة تجربته الشخصية منذ طفولته في قريته عين غزال مؤرخا وشاهد عيان لوقوع نكبة 1948م.
وكتب عبدالله التل «مذكراته» عن معركة فلسطين 1948م الذي صور فيها مأساته الشخصية بين هروب ولجوء، وكتابه «خطر اليهودية العالمية» الذي أرخ فيه للنكبة وما قبلها. وكتب عارف شحادة العارف كتابه «النكبة والفردوس المفقود»، في ستة مجلدات، راصدا فيها شهادته العينية لنكبة 1948م وما تلاها. وكتب المؤرخ الفلسطيني ناصر الدين النشاشيبي كتابه الماتع «تذكرة عودة»، مسيلا رضاب قلمه في رشاقة أسلوب ينضح ألما من فراق مواطن الصبا، ويلهج بتراتيل العودة، مطرزا ورقات كتابه برجاءات العيش مرة أخرى في منزله الفلسطيني الذي فارقه قسرا. كلها مصنفات تشكو ألم فراق فلسطين، وتترسم طريق العودة إليها، وتئن من تآلب العالم الغربي على أرضهم وتلالهم وقراهم وبيوتهم ومزارعهم ومعاصرهم وطواحينهم، ذلك العالم الغربي الذي احتلهم باسم الانتداب البريطاني، ثم سلمهم لذئاب الصهيونية، ثم سلبهم وطنهم، ليقيم كيان هجين اسمه إسرائيل.
لم يكن مقصود هذه السطور والكلمات أن تجتر ذكرى نعيد حوادثها، إنما مقصودها الاعتبار من تذكارها في عامها السادس والستين، اعتبارا نجعله موقظا لنا عن هول ما أنجبته الخديعة القائلة بالحقوق الإنسانية، تلك الخديعة التي أضحت سافرة متبرجة في القرن العشرين، هذا القرن الذي وسم بقرن حقوق الإنسان، وقرن الأمم المتحدة ومجلس أمنها، قرن الدول العظمى، ومحكمة العدل التي كان من فعائلها أن طلبت باسم الحق والعدل أن تبيح فلسطين أرضها لصعاليك الأمم فتؤويهم وتمهد لهم ليقيموا دولتهم الهجين، فسكتت عن افتراس الذئاب والعصابات الصهيونية الهمجية، التي خرجت من مكانها جائعة، وقد سلبها جوعها كل رادع يحملها على شيء من الورع، لتعيث في أرض فلسطين فسادا، ولترتكب (بدعم من العالم الغربي المتمدن) جريمة من أبشع الجرائم في تاريخ الإنسانية، بأن أقحمت شعب على شعب آخر ليجليه عن بلاده، فيستذله ويستعبده. نريد العبرة بما سلف من حوادث تلك النكبة، خصوصا في تلك الأيام التي نعيشها وقد حصحص الحق، ولم تبق في الأنفس حجبا عن رؤية الحقيقة السافرة والوقائع الواضحة، من أن الحرب لازالت رحاها تدور وتدور، حرب قال عنها شيخ العربية محمود محمد شاكر: إنها حرب ضارية لا ترحم، فمن شك فإنما يشك عن دخل وفساد، إن يهود العالم على قلب رجل واحد، يريدون أن يلتهموا هذا الشرق العربي كله، ويكونوا سادته وكبراءه والحاكمين بأمره في كل ثنية من ثنايا أرضه. لا نقول لكم اقرؤوا كتب الصهيونية لتعلموا، بل اقرؤوا كتابهم الذي يدينون به، واسترقوا السمع فيما يجري على ألسنتهم وهم يتخافتون بينهم، وادخلوا بيعهم، وانظروا في وجوههم، وتفرسوا في سمتهم وشمائلهم وحركاتهم، فيومئذ تعلمون أن تحت هذه الصفحة البريئة المتلألئة أخطبوطا سفاحا قد قتله الظمأ إلى دمائكم، ولوعه الشوق إلى فرائس أموالكم وبلادكم. وليس بسياسي من لم يعرف عدوه معرفته لنفسه التي بين جنبيه، وليس بسياسي من كتم هذه المعرفة عن قومه في ساعة القتال والحرب. فليعلم أهل هذه المدنية الغربية في القارة العجوز أو في العالم الجديد، وينبغي أن نعلمهم نحن في بلادهم وبين ظهرانينا أننا لن نهاب مكاشفتهم بعداوة طالب الحق الذي ينتصف من نفسه لعدوه، وينتصف لنفسه من عدوه، والذي لا ينكر معروفا ولا يغمط حقا، ولكنه لا ينسى أن عدوه هو عدوه.
dr_sultanasqah@