يسميه الألمان die mauer (جدار الموت) باعتباره رمز الطغيان والتمزق، وذكرى لعملية اعتقال الزمن، وخنق أنفاس الحرية، وندبة شنيعة في جبينهم، وعلامة رهاب لدولة تحبس شعبها كي تمنعه من الهروب.
حوادث صورها خير تصوير دروزيل في كتابه «التاريخ الديبلوماسي»، وصورها أريك دورتشميد في كتابه «دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ». انتصب ذلك الجدار عاليا في أغسطس 1961م كستار حديدي يمزق ألمانيا إلى شطرين على مدى جيلين (ألمانيا شرقية = شيوعية) و(ألمانيا غربية = رأسمالية)، كان جزؤه الأسوأ صيتا حاجزا أسمنتيا، قائما في وسط مدينة برلين، ليمنع ألمان الشرق من الخروج والتنقل، من خلال أسلاك شائكة وأبراج مراقبة تقمع التوق البشري إلى الحرية.
قفز الناس فوقه، وحفروا الأنفاق تحته، وخطفوا الطائرات كي يعبروه، فنجح بعضهم، ولكن معظمهم قد أخفق.
زار الرئيس الأميركي كينيدي منطقة الجدار برلين، فهاله المنظر، فمزق خطابه المكتوب الذي كان مقررا أن يلقيه على أهالي برلين الغربية، أدرك أن خطابه لم يعد صالحا، وارتجل كلمة دعا فيها السوفييت إلى هدم الجدار المشين.
فرفع الرئيس السوفييتي خورتشوف (1958- 1964م) جزمته وضرب بها منصة الأمم المتحدة محتجا على تدخلات أميركا في ألمانيا الشرقية.
وجاء الرئيس السوفييتي بريجينيف ليعلن أنه «لن يسمح لأي بلد يدور في فلك الاتحاد السوفييتي بالانفصال عنه».
إلا أن الأحوال بدأت بالتبدل، ففي الساعة 6 والربع، مساء 9 نوفمبر 1989م كان جمهور ألمانيا الشرقية يشاهد مقابلة مباشرة على شاشة التلفزيون مع الناطق الرسمي الجديد للحزب الحاكم، فسأله صحافي: «متى سيسمح للمواطنين بحرية السفر؟». فجاء الرد صاعقا: «يستطيعون أن يغادروا متى شاءوا إلى حيث يريدون، ولن يوقفهم أحد!». فحصل هرج ومرج داخل الاستديو.
وحتى هذا اليوم من الصعوبة الحسم إذا كان الجواب عفويا أم مدروسا.
وأيا كان السبب فإن أحدا داخل القاعة أو خارجها في العالم كله لم يتوقع هذا الجواب.
وبعد اللقاء بساعة، انتشر النبأ في برلين الشرقية كلها، وسرعان ما زحف المئات والألوف من الشعب إلى نقاط التفتيش الحدودية عند جدار برلين، وبقي رئيس حرس الحدود محافظا على هدوئه، رغم أنه تابع المقابلة التلفزيونية، إلا أنه لم يتلق أوامر صريحة.
بدأ الكورس الجماهيري بالصياح: «افتحوا البوابات». وانفلت زمام الأمور كليا، إذ فتح أحد الحراس البوابة ليخرج بغية تهدئة الحشود، غير أنه سرعان ما نحي مع تدافع الجحافل البشرية ناحية البوابة.
وقف الحرس الشرقي عاجزا تماما.
وانقلبت برلين الشرقية رأسا على عقب، وانفتحت سائر البوابات.
وسرعان ما اكتظت قمة الجدار بالمتسلقين الذين بدؤوا يسقطون عنه فوق رؤوس الألمان الغربيين المحتشدين في الجهة الأخرى.
في ذات الليلة، طلب التلفزيون على الهواء من محافظ برلين أن يدلي بتصريح، فرد قائلا: «ليس لدي تفسير لما يجري»، وبعد دقائق وصلته أثناء المقابلة ورقة مكتوبة بقلم الرصاص مكتوب فيها: «حشود كبيرة تتدفق عبر الجدار، إن الوضع على الحدود خرج عن السيطرة»، فما كان من المحافظ إلا أن قام بإنهاء المقابلة.
هكذا أحدث سقوط ذاك الجدار ضجة هائلة، ككل رموز القمع حين تهوي.
فمع سقوطه اتحدت ألمانيا، وانتهى عصر الشيوعية وزمن الستار الحديدي، وتلاشت تنافسات الحرب الباردة، وأصبح العالم أحادي القطب.
sultanasqah@