في المقالات السابقة، وعلى مدى أعوام، اتخذت من جملة «أيام معدودات» عنوانا ثابتا لزاويتي في «الأنباء»، مع صفة «مختصة في الإعلام السياسي»، اليوم قررتُ أن الرسالة التي أنتهجها في الحياة مختلفة عما أتبنى وأصف نفسي به، رغم أنه تخصصي العلمي ومهنتي لأعوام كثيرة، لكن الإنسان متى ما استمر في خط ونهج ثابت لمدد طويلة سبقته المتغيرات، وحقيقة إن من محاسن عام 2020 العزلة والتفكر ومراجعة النفس، العزلة لا تخرج منها إلا بخير بعد المواجهة مع الشخص الأشرس في حياتك: أنت.
منذ بداياتي في الثمانينيات، عندما كنت محررة لم أبلغ العشرين من عمري بعد، وضعت قيماً عامة ومبادئ لمسيرتي في الصحافة لم أحِد عنها، ترتكز على الدفاع عن الحريات والعمل على إيجاد بيئة ملائمة للمزيد منها، والدعوة لتكريس العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات، وفهم المواطنة التي تجمعنا في البلد الواحد، والإنسانية التي تحتضننا مع البلدان الأخرى، والاهتمام بتطوير منظومة حقوق الإنسان وتحريره من أخيه الإنسان كلما حاد عن صراط البشرية.
ولكن الرسالة ومهمة الفرد غير ثابتة تتغير بتبدل الأوضاع العامة والنضوج والنمو والوعي بمساره الحالي وكيفية استخدامه لترسيخ القيم والمبادئ التي يؤمن بها، والحكمة أن تعي أين أنت الآن وإلى أين تذهب لتخط طريقك، ومن اختار الصحافة والإعلام فهو أخذ مسؤولية تعدت التفكير بنفسه ولها إلى المجتمع، بل إلى كل البشرية قاطبة.
اليوم وبعد أكثر من ثلاثة عقود في بلاط صاحبة الجلالة، وبعد التجول ككاتبة عمود ومحللة اقتصادية وسياسية ولسلوك الفرد فيهما في صحف خليجية وأجنبية، وجدتُ أننا في العالم العربي والإسلامي نبتعد كثيرا عن فهم معاني الحياة الطيبة لذلك نجهل العيش بسلام في الدنيا وننتظر «دار السلام» في الآخرة، في حين أن الله جل جلاله وعده (لنحيينه حياة طيبة) يتضمن الدارين، ولا أعلم من أقنع المسلمين باستثناء الحياة الدنيا من الوعد.
لقد شوهت معاني الحياة لله وطغى شعار الموت لله، وليته على علم بل جهل وتبعية، لقد ضل المسلم أو ضُلل عن حقيقة أسباب وجوده، الحياة الطيبة، الاستخلاف وعمارة الأرض، الأمة المأمورة بغرس فسيلة وإن قامت الساعة أمة ميتة ولكن تتنفس، تنافس في العيش للموت ولا تعلم عن دينها دين الحياة والإنجاز والتفوق والعدل والسلم والجمال إلا استعجال الموت للحاق بركب يقف مصطفا أمام طوابير الحور العين، بتسطيح متعمد لفكرة الجهاد والموت في سبيل الله الحقة وهي بريئة، هناك فجوة بين الإسلام والمسلمين، هوة بين ما يدعونا إليه القرآن وما تفهمه وتطبقه خير أمة أخذت هذا الصك واعتبرته أزلياً مشيحة بوجهها عن سُنة الاستبدال التي تسترد الخيرية متى ما نقضت شروطها.
حتى تتمكن من ممارسة المواطنة في بلدك، والإنسانية في الكرة الأرضية، عليك تجاوز العمق المكاني الذي أسر الجميع بين مكبل لوظيفة ولعائلة ولنظام سياسي ودائرة مغلقة من الهم والمشاكل المصطنعة المصممة لتجعلك تدور في ساقية خطة أي منتفع لبقاء الوضع واستقراره عبر تجهيلك بالخيارات وتخويفك بالجوع والتشرد إن أردت أن تخطو خارج تلك المنطقة التي سيَّجوها لضمان أن تولد وتعيش وتموت فيها.
«أيام معدودات» جزء من آية قيلت في أيام صيام رمضان، تعني الحصر وتشعرك بضيق ومحدودية الوقت، لم أعِ عندما اخترته شعارا لمقالاتي بأنه لا يعبر عن أبدية مهمة من جاؤوا «ليعبدون» فاستبدلته بشعار «شِق فكرة» لعله يتلاءم مع رسالتي في الحياة بعد أن استوعبت أنها تكسر قيود المكان والزمان، وهي العمل على عالم الأفكار عند الإنسان بغرض تحسين جودة حياته ليحقق الخيرية ويستحق مهمة الاستخلاف، لذلك وضعت وصفا «داعية إلى الحياة الطيبة».
الفكرة جذر تُروى بالمعرفة، يشتد ساقها بالعمل، تزهر بالمثابرة والصبر، وتُقطف بالانضباط.
فلننشر الــحياة الـطــيبة ولو بشِق فكرة.
kholoudalkhames@