الوطن لا يحتاج إلى شعارات رنانة، أو أقوال وهتافات لا تسمن ولا تغني عن جوع..! الوطن هو لنا جميعا ويحتاج إلى الأفعال لا الأقوال، لذلك أصبحنا لا نفرق الآن بين الصادق والمتقلب الكاذب، بين الوفي والمنافق المتناقض، خصوصا حين رأينا في هذه الفترات أولئك الذين رجعوا إلينا مرة أخرى يتماهون بعد صمت وغياب طويل على وسائل التواصل الاجتماعي بترديد هتافاتهم وشعاراتهم وعنترياتهم الزائفة، فقد أصبحت الطرق متشعبة ومتشابهة بالنسبة لنا.
فكم يحزننا ويؤلمنا عندما نرى الوطن يشكو الحال ويئن من بعض الأفعال! وكم يحزننا ويؤثر فينا حين نرى بعض المنافقين يغرزون خناجر مصالحهم في ظهره! وكم يحزننا أن نراه يتحمل كل المشقات والآلام ويخبئها في صميم قلبه، فهو التاج الذي نضعه على رؤوسنا.
فحب الوطن هو من أعظم العلاقات وأجلها والتي يجب ألا يشوبها أي كره أو تخاذل أو مضرة مما يضر أمنه وقيمه ومنجزاته، يقول الغزالي: «والبشر يألفون أرضهم على ما بها، ولو كانت قفرا مستوحشا، وحب الوطن غريزة متأصلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحن إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هوجم، ويغضب له إذا انتقص من قدره»، وعبر لنا النبي أيضا صلى الله عليه وسلم عن حب الوطن في بداية بعثته وحين هجرته، ففي بداية نزول الوحي عليه بغار حراء ذهب مع زوجته خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل، وقص عليه ما حدث معه من أمر، وورقة يفسر له ذلك حتى قال: «ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله: أو مخرجي هم؟!، قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا».
قال السفيري قوله صلى الله عليه وسلم: «أو مخرجي هم؟»: استفهام إنكاري على وجه التفجع والتألم، كأنه استبعد صلى الله عليه وسلم أن يخرجوه من حرم الله وجوار بيته، وبلدة أبيه إسماعيل من غير سبب، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن منه فيما مضى ولا فيما سيأتي سبب يقتضي إخراجا، بل كانت منه المحاسن الظاهرات والكرامات المقتضية لإكرامه وإنزاله بأعلى الدرجات.
ونحن جميعا متفقون على حب الوطن الذي تربينا وعشنا وسنموت فيه، فلا أحد ينكر ذلك، حياتنا بدونه لا تساوي شيئا، فهو ملاذنا من بعد الله تعالى، وخيارنا الأول والأخير، لا يحتاج لمساومة ولا يحتاج لمزايدة ولا يحتاج لمجادلة ولا يحتاج لشعارات رنانة ولا يحتاج لآلاف الكلمات، أفعالنا فقط هي من يجب أن تشير إلى حبنا له.
فلأجل أرض وأوطان تشردت أمما، لأجل أرض وأوطان ضاعت حضارات وتاريخا وتراثا، لأجل أرض وأوطان استمر نبض القلوب حبا ووفاء حتى آخر نبض في الأجساد، فحب الوطن فطرة مركوزة في وجدان كل إنسان سوي.
حب الوطن ليس أقوالا لا تصاحبها أفعال بل هو عمل واجتهاد من أجل بناء وطن أفضل كي ينمو ويكبر، يحتاج إلى السعي والتطوير، يحتاج إلى الحفاظ على مقدراته والدفاع عنه في كل وقت وعدم التفريط بأي شبر منه، فالوطن دون سواعد أبنائه يصبح أشبه بمنفى.
كما يجب الانتماء إليه والاعتزاز بتاريخه والتغني بأمجاده وإجلال رموزه والتضحية من أجل حماية أرضه وحفظ كرامته والعمل على رفعته وصون سمعته بين الأوطان، بعيدا عن الجدالات السياسية العميقة والثرثرة وكثرة الكلام، كي لا تتراجع صورته الزاهية المنسجمة وتظهر فجوات الخلل التي تتسلل منها السلبيات، حتى لا يبدو التغني بحب الوطن فيما بعد مجرد كلام لا يؤثر في أحد ولا يتجاوز الحناجر.
فلنوقن أن حب الوطن أقوى من كل منطق، ويجب الحرص على تقدمه ورفعته لأجل حمايته وصونه والذود عنه، ولأجل أن نكون منه وبه وله وإليه مطالبون نحن أينما كنا أن نؤدي باليمين وأن نقسم بالله العظيم وأن نكون مخلصين لله ثم له.
ولا أعرف حقيقة، كيف هان وطننا الغالي على الكثير من البعض، وأصبح بالنسبة لهم مجرد اسم؟!