بعد سقوط الاتحاد السوفييتي المدوي أعلنت روسيا الاتحادية الوليدة أنها وريثة له وستتحمل التبعات والالتزامات الدولية المترتبة على ذلك، وعلى ما يبدو فالكثير من الإرث السوفييتي البائد قد عاد في عهد بوتين رجل المخابرات السوفييتي السابق والرئيس الحالي لروسيا الاتحادية وإن كان البعض يسميها روسيا «القيصرية» ربما تندرا على المركزية الجلية في القرار الروسي فضلا عن الأقاويل الرائجة بمسؤولية السلطة عن تصفية المعارضين المشاغبين في الداخل والخارج.
لعل القائلين بعودة شيء من الإرث السوفييتي في حقبة بوتين محقّون تماما، ولا تعنينا سياساته الداخلية بقدر الخارجية والتي لها التأثير المباشر على المنطقة، فالتاريخ يخبر أن الاتحاد السوفييتي البائد كان لا يقيم وزنا لمطالبات الشعوب ولا يجيز أنشطة الحركات المدنية التي يتوجس منها خيفة ويُشتمّ دائما من ورائها رائحة المؤامرات الأطلسية وكأن الزعماء السوفييت من لدن لينين حتى تشيرنينكو كانوا يجاهدون وسواسا قهريا فيما يتعلق بالمدنية والديموقراطية، بل كان الاتحاد السوفييتي يدعم وبقوة الحكومات الاستبدادية في دول حلف وارسو وأخرى شيوعية اشتراكية خارجه حتى لو تطلب ذلك تدخلا عسكريا والتورط في نزاعات خارجية، كما حدث في ربيع براغ في ستينيات القرن الماضي وكذلك أفغانستان في نهاية السبعينيات منه.
النهج الروسي اليوم في حقبة بوتين لا يختلف كثيرا عن سلفه السوفييتي، فدعم الديكتاتوريات والسلطات المستبدة على حساب الشعوب لم يتوقف، وإمدادها بشتى أنواع الأسلحة الفتاكة جار، والتدخل الروسي العسكري الحديث في سورية على قدم وساق لإبقاء مستبد واحد أزهق أرواح ما يزيد عن 300 ألف إنسان كان «ذنبهم» أن طالبوا بالعدالة والمساواة في توزيع الثروة والحرية والديموقراطية.
دائما ما كانت المبررات الروسية لغزواتها العسكرية معدة سلفا وإن كانت أقل من أن تكون مقنعة، كما حدث في جورجيا وأوكرانيا وحاليا سورية، فالعذر الروسي للتدخل في سورية كان لأجل محاربة الإرهاب، ولم تقل الحكومة الروسية إنه لمحاربة داعش أو النصرة، حتى يسهل عليها بعد ذلك مهاجمة الحركات الثورية المعتدلة بزعم الإرهاب أيضا، إلا أن بوتين لم يلبث أن كشف اللثام عن السبب الحقيقي من وراء الحشد العسكري في سورية في مقابلة أجرتها معه قناة cbs الأميركية حول ما إذا كان الهدف من التعزيزات الروسية في سورية إنقاذ الأسد، فأجاب بوتين: «صحيح هكذا هو الأمر».
المقامرة الروسية في سورية ليست لأجل إنقاذ الأسد فحسب، فالروس أذكى من الانغماس في نزاعات عسكرية مجهولة النتائج لأجل رجل يمكن استبداله بغيره، وإنما للحفاظ على موطئ أقدامها في البحر المتوسط، وهو السبب ذاته لضمها شبه جزيرة القرم وهو الحفاظ على قواعدها البحرية في البحر الأسود.
من المبكر معرفة نتائج التورط الروسي في سورية، كما أن الأوضاع في سورية ليست مشابهة تماما لما كان عليه الأمر في أفغانستان لكن كل هذا لن يجعل القوة الروسية تحظى بنزهة دون عواقب، لاسيما أن الاقتصاد الروسي يعاني من وطأة العقوبات الأميركية والغربية فضلا عن انخفاض أسعار النفط التي انحدرت بالعملة الروسية لمستويات كبيرة.
من يضمن بعد التدخل الروسي والذي يرفضه معظم أبناء الشعب السوري في الداخل والخارج أن تجذب الجماعات الإرهابية أفراد الحركات المسلحة المعتدلة والشباب المتحمس من مختلف بلدان العالم تحت ذريعة مقاومة الغزو الروسي لبلادهم كما حصل في أفغانستان؟ وبدلا من أن تحارب روسيا الإرهاب كما تزعم وتعمل على تقليصه إذا هي تسهم من حيث لا تعلم في تمدده وبقائه لفترة أطول، ومن يضمن أيضا ألا تعاني روسيا من هجمات إرهابية داخلية نتيجة مقامرتها السورية؟ ولروسيا تجارب مريرة مع هجمات الإرهاب الداخلي نأمل أن تدرك الحكومة الروسية أسبابها جيدا.
أخيرا وبالتأكيد أن السمعة الروسية دوليا ولدى بقية الشعوب الأخرى تقبع في آخر اهتمامات الحكومة الروسية، وأصبح دعم الديكتاتوريات والاستبداد ودس الأنف في شؤون الدول الداخلية وضرب حقوق الإنسان عرض الحائط ومناوأة تطلعات الشعوب التائقة للتخلص من الظلم والقهر هي السمة الأبرز للحكومات السوفييتية ولوريثتها روسيا أيضا ولا سيما في عهد بوتين والذي سيحكم عليه التاريخ كما حكم على غيره.
* منعطف: حسن نصرالله يبارك التدخل الروسي العسكري في سورية، في حين بعثت روسيا بتطمينات إلى الجانب «الإسرائيلي»، وأخشى بعد ذلك أن يخرج علينا حسن مرة أخرى ليخطب في البسطاء زاعما أن التدخل الروسي إنما هو لأجل تحرير الأقصى وبقية فلسطين.. عاشت الممانعة.
mohd_alzuabi@