شعرت باحتياجي لها، كان الإلهام يغمر فكري ونبض فؤادي، هناك شيء يجرني تجاه الورقة البيضاء لأصبّ فوقها مشاعري، أمسكت القلم وإذا به يتنازع مع حروفي، ثم انحرف فجأة وغدا يتحرك في جميع الاتجاهات، يريد أن يتحرر من أصابع يدي رافضا الانصياع لفكري، قلبي يتأثر من الموقف، يدخل في حوار للإقناع، فأصابعي ملك عقلي وحرفي ابن ورقتي.
أضغط بقوة لأكتب، تتألم الكلمة من قسوتي، أمام عنادها يصرخ حرف من الحروف فجأة وأنا أجر رأس القلم فكسرت ساقه، أُقسم لم أكن متعمدة.
أسرع حرف الهمزة ليضمده، وكأن أنينه يؤلم ضميري، تعاطفت معه الحروف وتدافعت بنخوة فالتمت حوله، حتى شعر بالدفء واستوى قائما، ثم أقسمت الأحرف للثأر، ورأيتها تتشابك، وبسرعة دفعت برأس قلمي!
تقلب القلم بين أصابعي وصارت ممسحته إلى الأسفل فوق الكلمة، وبحركة سريعة غير متوقعة تحركت ممسحة القلم يمنة ويسرة، ورغم مقاومتي الشديدة إلا أنها كانت أقوى من إصراري وقامت بمسح كل ما كتبت!
شعرت بالفشل والإحباط وتركت الورقة خالية من الكلمات، ولكن أثر الخدوش واضح عليها، كأنها تقول إنها مرت من هنا ولكن لم تكن محطتها على هذا البياض!
فهناك خصام سافر ولا بد من طلب مغفرة تنبع من ندم على ما سببت لها من هجر طويل، فقد كانت صديقة حميمة لي، وقد تعاهدنا على النمو معا، ولكن أنا من نكثت العهد وخذلتها، وصارت الأيام تقفز بي سريعة من دون أن أصحبها معي، وتركتها في مكانها بحجمها المتواضع على مستوى عمر واحد، وهي التي كانت تنتظر مني أن أشعر بها لأمسك بيدها وتكبر معي.
لذا أعترف بذنبي، والندم خالط وجداني، فشعوري في هذه اللحظة لا يمكن أن يعرف مقداره إلا من كانت له «صحبة حروف» ثم حال بينه وبينها هجر وفراق.
عندها.. تركت القلم بعيدا وبكيت على الحال بشدة.. طويت الورقة بجراحها ووضعتها تحت وسادتي غارقة بدموعي.. وهنا غفت عيناي على آخر مشهد عبر في مسارات عقلي.
وأنا بين حلم ويقظة، سمعت دبيبا كدبيب النمل عند أذني وصوتا أشبه بالهمس لا أفهم ماهيته، وبحركة عفوية دعكت أذني، وبعد ثوان عاد نفس الصوت، رفعت جفني المثقل بالنوم، وإذ بي أرى طابورا من الحروف يتسلل إلى وسادتي، أدرت رأسي للناحية الأخرى، جاءتني الحروف وقد تشكلت على صورة شجرة مثقلة بالثمار، ثم هزت جذعها ورمت بعدد من الكلمات على فراشي، ثم تقاربت شيئا فشيئا حتى دنت من رأسي وقالت لي: قبلت منك أسفك، فاختاري من الكلمات ما تشائين.
شعرت بفرحة كبيرة، كمن انفرجت عنه همومه، ولا أدري أينا أسرع.. حينما رأيتها تتشابك وترتمي على صدري ضممتها وضمتني حتى ذابت بين أصابعي.
عندها فتحت عيناي وكأنني كنت أتقلب على مسرح الأحلام، جلست معتدلة وتمتمت «خير.. اللهم اجعله خير» نظرت إلى ساعة الحائط، فوجئت.. أرقامها تحولت إلى حروف.
[email protected]