في الخامسة من عمره أصيب ولدي جسديا بكسور في أطرافه الأربعة، وتطلب جبرها فترة ليست بالطويلة ولصغر عمره برأت جروحه، ولكن انكسارات النفس تطلبت سنوات لجبرها، المخاوف من الحوادث، القلق من احتمال تكرار العجز عن استعمال اليدين والرجلين، وكثير مما علق بذاكرة طفل طار في الهواء وسقط من الشباك، الأمر يتطلب يدا ماهرة لانتزاعه من دون التسبب بضرر في الطريق، ومرحلة النقاهة النفسية استمرت أعواما.
آنذاك قررت أن أجد لابني مساعدة مختصة، وقد كنت إحدى الحاصلات على إرشاد نفسي في مكتب الإنماء الاجتماعي - مركز علاج الذين تعرضوا للصدمات إثر الاحتلال العراقي - واستفدت في التخلص من آثار الأحداث، الخوف من فقدان الوطن والأهل وتعرض أقرباء للقتل والتشرد واحتمالات الاغتصاب وغيرهم.
فجمعت جراح ولدي مع مخاوفي عليه، وحددت موعدا في قسم الطفل ليبدأ علاج الإرشاد النفسي، وكانت مواعيد الطلبة تحدد بعد فترة المدرسة، فأصحب ابنتي للجلسة لأنها تعرضت لخوف من وقوع أخيها، وبعدها تكون جلسته، فـ «نحل الواجب» حتى ينتهي، هناك رزقنا الله بمنى ابنة فجحان.
كان لديها تحد كبير، فبعد الحادث تحول طفلي الهادئ إلى شديد الحركة، وبقيت كدمات نفسية وهي تجيد الاختباء في الذاكرة وتظهر على شكل سلوك عندما يتعرض الإنسان لصدمة شبيهة، وبدأت رحلة من أكثر الرحلات اختلافا، بالنسبة لي كأم تربي أبناءها بلا أب، وهو جهاد تعلمه مثيلاتي من النساء.
الإرشاد النفسي يتطلب شخصا لديه أكثر من مهارة المعالج الذي يؤدي وظيفة، فالإتقان في أداء المهنة يحصل بالدربة، بينما المواصفات في الشخصية هي هبة ونعمة وقد رزقتها منى.
عملت على تأسيس علاقة ثقة مع ولدي وبلغت درجة التواصل معه أفضل مني أنا، ووضعت خططا بعدد الحروف الهجائية بدلا من الخطة (أ) و(ب)، نجحت بحصار مخاوفه ضيقت عليها ووضعتها في حجمها الطبيعي.
منى التي دخلت مكتبها قبل ما يقارب العشرين عاما في مكتب الإنماء الاجتماعي وبيدي طفلان الأول مصاب بصدمة والثانية مصدومة مما أصاب أخاها، اليوم هما رجل وفتاة سويان بفضل الله ثم إنسانيتها التي مسحت بحنو على إصابات عيالي وقلبي، تفننت في وسائل العلاج، تارة باللعب وأخرى بالرسم ثم بالحوار والتشجيع، أذكر الألعاب ذات المغزى التي كانت تهديها للأطفال في أيام ميلادهم، وتزين جدران مكتبها برسمهم، وبقاءها بعد أوقات العمل وخارج نظام العمل الإضافي أيضا.
هذه (المنى) نذرت علمها ووقتها ومالها لعملها حبا وإخلاصا ولا عجب، فهي غصن في نخلة باسقة نبتت على قيم الخير ومبادئ العمل الصالح، أمها إعلامية من الرواد، كنت أنظر إليها مثل ثريا معلقة في سقف تنير وتلمع لتصنع المثل والقدوة والأيقونة، تمنيت لو أبلغ قليلا منها، المغفور لها أمنا غنيمة فهد المرزوق، وأبوها الخيّر الذي يعرفه تاريخ الكويت والجزيرة العربية المغفور له فجحان هلال المطيري، فهنيئا لهما بهذه (السعفة) ولنا كذلك.
@kholoudalkhames