كم من يهتم بالبحث ليصنع شجرة لعائلته، بينما قليل من يسعى ليجعل من العائلة شجرة، جذرها يضرب عمق الأرض وموصول رحمها إلى السماء، هي الظل الوارف لأعضائها والغيمة التي يبرد رذاذها صهد الحياة.
الشجرة تحمي من تحتها بلا شروط وأحكام وقوانين، كذلك العائلة لا تنتقي من تقرب ومن تبعد، من تود وتبغض، من تحتوي وتطرد، العائلة ليست في موقع خيار لأعضائها ما أن يمنح لهم الله الحياة وحتى يستعيد أمانته.
لذلك عندما لا نجد في العائلة أمنياتنا نختلق عائلة «ظل» أو عائلة «موازية» لأن الإنسان يحتاج «للشجرة» فنتخيل الأب المتفهم عندما يكون الأب الحقيقي غضوبا وعصبيا، وأمّاً قريبة عندما تكون الحقيقية مشغولة بالحياة الاجتماعية، نصنع أخاً يسألنا ماذا نريد ويوفر احتياجاتنا، بدلاً من الذي يظن نفسه الحاكم بأمره و «ما يعيبه شي»، ونخلق أختاً لا «تفتن» وتنقل أسرارنا لتحصل على مديح يدعم سلوكها المعيب.
عندما لا نجد في عائلاتنا الكتف الذي نبكي عليه هزائمنا، والظهر الذي يحمل سقطاتنا، والقلب الذي يسع صراعاتنا، والعين التي تتغافل عن عيوبنا، نلجأ لعائلة الظل أو الموازية ولو كانت خيالا، هذه أضغاث خيال تختبئ في ذاكرة كل مصاب بخيبة الأمل في عائلته.
ولكن لمَ لا يعيش الإنسان بالأمر «الواقع» مع أسرته؟
الفرد يريد التقبل والدعم بالذات من أسرته مهما بلغ سنه، وهو كائن اجتماعي مفطور على الحياة ضمن إطار جماعة، وأول جماعة نظامية هي الأسرة ثم تتشكل شخصيته المجتمعية بالتوازي مع نشأته، عندما يصدم بأول محضن: «العائلة» ولا يستطيع أن يغيرها وتلاحقه إلى اللحد، يكون أمامه خياران: الأول أن يصادمها، والثاني أن يهادنها، في الخيار الأول يعيش الكثير مع أسرهم وبالمقابل تفسد نفسيته ويحمل قلبه اللوم وتنعكس أفكاره بتخلي العائلة عن دعمه لأنه «مخالف» لآرائهم على أمراض في جسده وسلبية في تفسير كل تصرفاتهم وانعدام الاتزان العام، حتى عندما يؤسس عائلته الخاصة، ينظر للممتدة بأنها سبب في أي فشل محتمل في إدارته لأسرته ويحملهم المسؤولية.
الثاني أن يهادنها، وقد يبدو خياراً إيجابياً ولكنه أسوأ من الأول بنتائجه، فقد يحتاج عضو العائلة للسند و«الظهر» فيتنازل عن اهتماماته وهواياته ويتخلى شيئاً فشيئا عن أحلامه وتستحيل حياته إلى دوامة لإرضاء الأسرة التي بالطبع كلما رأت أن الابتزاز العاطفي التي تمارسه لتخضع الأبناء يجد سوقاً عند أحدهم تزيد الجرعات حتى يدمن هو على الخضوع والخنوع وتنعدم شخصيته وخياراته ويصير إلى لا شيء، مجرد وعاء باسم جسد لم يختر تخصصه الدراسي ولا شريك حياته ولا مهنته، بينما تقف الأسرة مصفقة له بأنه الابن البار المطيع!
الحل في المواجهة الإيجابية، بوضع كل فرد أمام مسؤولياته تجاه حقوقه وواجباته، لا أحد يملك إجبار الآخر على أداء واجب أو منح الحق، ولكن التواصل الكلامي، وهو ما ميز الله به الإنسان عن الحيوان، لديه القدرة على تحقيق السلام مع وجود الاختلافات.
إن قبول الأبناء كما هم ودعمهم هو الغاية التي يرجونها من عائلاتهم، أما محاولات نحت الابن كتمثال مثالي لا عيب فيه عمل لم يقدر عليه الأنبياء، فلسنا بأفضل منهم.
kholoudalkhames@