... وأهلها مصلحون:
أن تكون صالحا فذلك خير ولنفسك، وأن تكون مصلحا فأنت تعديت بالخيرية إلى الأمة.
أن تكون صالحا فهذا جهدك واستطاعتك، وأن تكون مصلحا فقد تحديت إمكاناتك وجاهدت لتزكي وقتك وتقوم بدور الخلافة في الأرض وصرت ضمن دائرة أسباب نجاة المكان الذي تعيش فيه من عقوبة الإهلاك.
أن تكون صالحا فأنت اتخذت منهج القدوة وسيتبعك آل بيتك ومن حولك، وبصلاحك بلا محاولات إصلاح ممنهجة ومتعمدة يرزقك ربك أجر وفضل المصلح، فتخيل أن البعض يُجَرُّ جرّا إلى مراتب عليا لأنه مشى إلى ربه خطوات قليلة فقابلها الكريم بإحسان.
وأن تكون مصلحا فقد مشيت في طريق الأنبياء حملة الرسالات الدعاة على أبواب الجنة، ستسمع نشازات تقول «عليك نفسك» رد عليها: «وحرّض المؤمنين»، القوة في البيان همّة، اعمل على أن تعلم لتلزم، وأن تتعلم كيف تلزم، ولطف الرد لا يلغي نبرة الحق، المؤمن كيّس فطن، ويمده الله بالفتح ما دام يعمل في دائرته، ويرزقه البصيرة مازال جهاده للإصلاح.
رحلة الإصلاح من صالح فقط وصالح ومصلح تتطلب منهجية دعوة، المصلح يتكلم بما أُمر والصالح يعمل ما أُمر، متوازية ليست بسهلة ولكنها ممكنة وهي الغاية:(وما كان ربك ليهلك القرىٰ بظلم وأهلها مصلحون).
هل تشجعت؟ فهل أنت من الصالحين فقط أم معه من المصلحين أو ستسير بطريقهم؟ أنت مخيّر.
أقربكم إليّ مجلساً:
هل تريد أن يكون مجلسك قرب حبيبك ونبيك وقدوتك محمد صلى الله عليه وسلم؟ يمكنك ذلك.
اقرأ قول من لا ينطق عن الهوى: «ألا أخبركم بأحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة؟) فسكت القوم، فأعادها مرتين أو ثلاثا، قال القوم: نعم يا رسول الله، قال: «أحسنكم خلقا»، وقال: «ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء».
وقال: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون».
وقال: «إن خياركم أحاسنكم أخلاقا».
سوء الخلق مذموم عند المسلم عامة، وأعظم ضرر منه يكون عند الدعاة فإن الدعوة إلى الله لا تكون إلا بطاعة أمر الله بوسائلها: (اللين، التي هي أحسن... وهكذا) فإن الناس ينفرون من الفظّ وسيء الخلق، سيء التعامل، ويرفضون نصحه، ويقولون: ألا يطبق على نفسه ما يدعو إليه؟!
بينما يقبلون على حسن الخلق طيب المعاملة، ويتقبلون منه نصحه ويستمعون إلى قوله.
فمن ساء خلقه عطّل سبيل الدعوة، وجعل الناس يسيئون الظن بأهلها ويحكمون على الدين من خلالهم، وأنهم لا يحسنون التعامل مع الناس وينفرونهم.
كما يعود سوء الخلق بالعاقبة السيئة عند التعامل مع غير المسلمين، حيث إن سوء الخلق ينفرهم من الدين وأهله، فيتحول الداعية إلى الله لسبب في صد الناس عن سبيل الله، أو تنفيرهم من الدين وأهله:
عن أبي مسعود الأنصاري، قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان، مما يطيل بنا، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ فقال: (يا أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم أمّ الناس، فليوجز فإن من ورائه الكبير، والضعيف، وذا الحاجة).
الأخلاق لم تأت في الإسلام بل مع بدء البشرية وتكليف آدم» إني جاعل في الأرض خليفة «فهل أنت أحد الخلفاء أو في الطريق لتكون منهم؟ أنت مخيّر.
أنفعكم للناس:
قضاء حوائج الناس، والسير بمصالحهم، السعي لنصرة مظلوم، تبقى مسائل أيضا تعود لحسن الخلق، هل سيء الخلق يخدم إلا لمصلحة يرجوها؟
هنا نتكلم عن أعمال خالصة لوجه الله لا يريد فاعلها إلا الأجر وهو معجل في الدنيا لا ينقص من أجر الآخرة، لأن الله لا يبخس المؤمن ويرزقه طيب الحياتين.
فماذا قال حبيبك صلى الله عليه وسلم عن أنفعكم للناس؟ قال: «أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أوتقضي عنه دينا، أوتطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظا، ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل، كما يفسد الخل العسل».
أن تكون الأحب إلى الله لأنك قائم على حاجات الناس، أفضل من أن تقوم على قدميك لصلاة النافلة مثلا، من أعجب ما يتطلب تفكرنا هو حض الإسلام على التكافل الاجتماعي، ووضعه بكفة العبادات، بل وترجيحها.
لو مررت بذاكرتك على خطك الزمني، كم مرة نويت أن تمشي في حاجة مسلم حتى تقضيها، ومنعك تعرقلها وتركته بمنتصف الطريق؟ أعني الحوائج التي تتطلب الصبر والوقت وبعض المال وهم الأثمن عند الإنسان ويتعرض لاختبار المصالح هنا فيتراجع أو يزج بالحجج، ولكن الفطن من يعلم أن هناك مصلحة عليا، أن تكون الأحب إلى الله، فهل تريد أن تكون من الأحب إلى الله؟ أنت مخيّر.
وعجلت إليك ربّ لترضى:
أحيانا تعجل إلى ربك بالعمل الصحيح ولكن في وقت أو مكان خطأ فما معنى ذلك؟ هنا نتحدث عن فقه تراتب الأعمال، وهو باب على كل مسلم التعلم منه، ليحسن» عجلت «لا أن يقدم الفاضل على المفضول، وهو الانشغال بأعمال صالحة وترك أو اللهو عن أعمال صالحة أيضا ولكنها في تراتب الأفضلية متقدمة عليها، مثل الاستغراق في قيام الليل والنوم إرهاقا فيفوت صلاة الفجر أو يترك (للرجال) جماعتها، ومن مكائد الشيطان شغل المسلم بالعمل المفضول عن العمل الفاضل ليحرمه كثرة الثواب.
وفي قاعدة تزاحم المصالح قال العلامة السعدي: (فإن تزاحم عدد المصالح، يقدم الأعلى من المصالح) واقرأ ما جاء في بدائع الفوائد لابن القيم متحدثا عن مراتب كيد الشيطان في قاعدة تزاحم المصالح: (... فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة وكان حافظا لوقته شحيحا به يعلم مقدار أنفاسه وانقطاعها وما يقابلها من النعيم والعذاب نقله إلى المرتبة السادسة: وهو أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه ليزيح عنه الفضيلة ويفوته ثواب العمل الفاضل فيأمره بفعل الخير المفضول ويحضه عليه ويحسنه له إذا تضمن ترك ما هو أفضل وأعلى منه، وقل من يتنبه لهذا من الناس فإنه إذا رأى فيه داعيا قويا ومحركا إلى نوع من الطاعة لا يشك أنه طاعة وقربة فإنه لا يكاد يقول إن هذا الداعي من الشيطان فإن الشيطان لا يأمر بخير، ويرى أن هذا خير فيقول هذا الداعي من الله وهو معذور، ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابا من أبواب الخير، إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر، وإما ليفوت بها خيرا أعظم من تلك السبعين بابا وأجلّ وأفضل، وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد يكون سببه تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله وأحبها إليه وأرضاها له وأنفعها للعبد وأعمها نصيحة لله تعالى ولرسوله ولكتابه ولعباده المؤمنين خاصتهم وعامتهم.) انتهى.
الآن بعد أن علمت فقه المسألة، تذكر أنك عندما تقدم المفضول على الفاضل، أنك اخترت.
والسابقون:
هل سمعتم من يقول «أكتفي بأن أكون عند باب الجنة» وكأنه بذلك يدعي تواضعا معترفا بضعف عمله؟! هذا لا تجعله قدوتك، فالسباق أمر رباني «وسابقوا» جاءت في مكان كميزان للتقوى، والتقوى منزلة رفيعة وهي الفيصل بالأكرم عند الله (إن أكرمكم عن الله أتقاكم).
وتذكر أن الذي يرجح الميزان لدخول الجنة رحمة الله، ولكن عليك الإيمان والعمل الصالح الموافق للسنة، وأبشر.
من صدق لا من سبق، وهي مقولة صحيحة، فقد تدخل السباق بنفاق، أجارك الله، ويكون العمل محبطا، والسعي هباء لا قيمة له ولا وزن عندما تنصب الموازين، كم هي معادلة واضحة، انظر إلى قلبك هل يدخل الماراثون لشهرة ومكافأة؟ الشهرة هل عند أهل الأرض أم أهل السماء؟ والمكافأة من البشر أم من رب البشر؟ مواجهتك لنفسك بالإجابات هي الفيصل لتتعرف على مكانك في جماعة السابقين.
السابقون، درجة يرجوها الذين يطمعون بالمراتب الرفيعة، ويجهل الكثير أن اعتلاء السلالم يتطلب دربة مشي قبل الصعود، السابقون، هم أولئك الذين رجحت لديهم كفة الآخرة، فسعوا لها سعيها، بعد أن تركوا الصراعات الأفقية ورحلوا إلى الأعلى في هممهم، هل تريد أن تكون منهم أم لا؟ أنت مخير.
ما ظنك برب العالمين؟:
«أنا عند ظن عبدي بي» حديث قدسي يترك القرار ضمن إرادتك، أنت مخير إن وثقت بربك أم شككت وأسأت الظن به، تعالى الله.
كل مرة تدعو وتقلل من طلباتك لأن هناك صوت» درويش «داخلك يقول: استح لا تكثر فأنت مذنب، أصمته وقل بل أسمع رسولي حين سأله الصحابة عن الدعاء: «أنكثر، فقال الله أكثر».
كن طموحا بطلباتك بل أعد القائمة واعمل جدول أعمال لتسأل في الصلوات من فروض ونوافل، كل شيء لدينا له جداول، ومن باب أولى أن نضع الترتيبات الواضحة لأهم خطة، الآخرة، وبالطبع لا ننسى نصيبنا من الدنيا.
يقول «الدرويش» الذي في داخلك: يكفي أن يغفر الله لك ويدخلك الجنة، فقل له: الله واسع، لم تضيق أنت علي وتحصر رزقي في حياة واحدة هي الآخرة وربي أمرني بقوله (لا تنس نصيبك من الدنيا)!
الزهد مقام، والسائرون في الطريق يعرفون أن الصعود في المقامات العلى ليست بالأمر الهين، وهي تعتمد على أعمال القلوب وما أصعب تطهير هذه من الران.
فمن يريد من الناس التزهد سيزهدهم بالدين، لأن الزهد إرادة الإنسان لنفسه لا إرادة غيره له، وكم من مدعي زهد أرداه العجب بزهده.
بعض الأصوات التي تشعرك بالذنب تجاه المباحات ومتع الدنيا، بيدك أن تضعها على الصامت فأنت مخير.
لقد عققته قبل أن يعقك:
الأبناء إحدى أكبر النعم في الدنيا، والعائلة جزء من منظومة الاطمئنان التي يعيشها الفرد كضرورة للبقاء والحياة الطبيعية السليمة، فحتى من حرم العائلة، اليتيم، فأجر كافله من أعظم الأجور، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بينهما شيئا»، أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: «من ضم يتيما فكان في نفقته، وكفاه مؤونته، كان له حجابا من النار يوم القيامة، ومن مسح برأس يتيم، كان له بكل شعرة حسنة».
فهل اليتيم أقرب من الابن؟ إن كان للغريب الذي ليس له من يقوم بشأنه هذا الأجر العظيم، فكيف بمن كنت راعيا له ومأمورا بالمسؤولية تجاهه؟
ولكننا نواجه سوء فهم للبر، فالبر متبادل، أن تبر عيالك كما أن يبروك، وأنت تسبقهم ليتعلموا منك ويقلدوك، وما نراه اليوم أن الوالدين يعرضان الأبناء للابتزاز العاطفي باسم البر، يهينوهم بالنقد العلني وهم يجهلون أنهم بذلك يعطونهم درسا سلبيا في «كرامة الإنسان» التي يجب أن تحفظ ضمن حقوق النفس في ضرورات إقامة الدين.
البر أن تسبق أنت فيه أبناءك، ومن البر أن تحسن لهم في كل ما يمكنك الله فيه، أن تعلمهم الكرامة والعزة والرفعة والشرف وأن تمارس معهم المبادئ والقيم العليا للإسلام، وما يناقض ذلك فقد عققتهم قبل أن يعقوك وكنت لهم القدوة في عدم البر.
ولأداء حقوق الأبناء، على أبيهم اتباع السنة في ذلك والإحسان إليهم والإنفاق من الحلال وتعليمهم دينهم، قال صلى الله عليه وسلم «من سعى على عياله من حله فهو كالمجاهد في سبيل الله، ومن طلب الدنيا حلالا في عفاف كان في درجة الشهداء» و«... وإن كان يسعى على صبيان له صغارا ليغنيهم فهو في سبيل الله...».
بر الأبناء بذرة برهم لك، وأنت مخيّر.
فلما جنّ الليل:
تبدأ الرحلة إلى النور، المسير لأعلى، الرحيل أفقيا لتجميع الحاجات وترتيب مسكن الخلد في دار البقاء.
هي الخلوة، العزلة، التجلي.
المكان الذي لا مقام فيه لدنيا بزحامها، ولا لحاجات زائلة، ولا لحوارات فارغة، إنها اللذة من غير أن تعرف نوع النكهة المضافة للوجبة، وجبة المناجاة.
هل هي عبادة متاحة للجميع؟ نعم. تتطلب جهد؟ بل جهاد.
هي كذلك، تذكر نتكلم هنا عن أصحاب المقامات العالية، لا من يريد أن يقف عند باب الجنة، وسيعود لك الصوت النشاز «أين أنت من أهل المناجاة» ليثبطك، أجبه: (خلّ ما بيني وبين ربي)، أصمته واستمر بمجاهدة النفس التي تركن إلى الراحة وتحب الخمول، استعن بالدعاء وتعوّذ من الكسل والوهن وضعف الهمم، الليل له سهام موجهة برداء الدعاء لا تخطئ هدفها، مجربة ومعروفة، ولليل همس يعرفه السميع، يميزه من بين جميع خلقه، يحبه وينتظره ويجيبه.
عندما يدخل الليل الحالك، يتوسد كل مكان راحته، وأنت؟ أين مكان راحتك؟
أنت مخيّر.
خلود عبدالله الخميس
kholoudalkhames@