أتذكر بحسرة وكأنني أشاهد شريطا من الماضي بداية نشأة الكويت مطلع الستينيات حين كانت تمشي بخطى ثابتة وواضحة ومرسومة، كانت رائدة في المنطقة، وكان من يرسم مستقبلها رجال مخلصون من أبنائها سخروا كل وقتهم بإخلاص لخدمة هذه الأرض الطيبة، كان أعضاء الحكومة الوزراء من أبنائها الوطنيين أصحاب الخبرة في العمل السياسي، قراراتهم مدروسة يحرصون كل الحرص على وضع الخطط المرسومة للنهوض بالكويت ويشرفون على تنفيذ المشاريع على أكمل وجه دون النظر في الأمور أو المصالح الشخصية، واضعين نصب أعينهم أولا وقبل كل شيء مصلحة الكويت.
كان أعضاء مجلس الأمة من أبناء الكويت المخلصين أصحاب الخبرة والوقار الذين لا يسعون إلى التكسب الرخيص، لهم باع طويل في السياسة ولديهم خبرة متبحرة في العمل البرلماني، منهم من شارك في كتابة ومراجعة الدستور وحرصوا كل الحرص على المحافظة عليه والمساهمة في تطبيقه بما يكفل الحفاظ على مصالح المواطنين أولا دون النظر الى المصالح الشخصية، وكان المواطنون حريصين على التعاون مع الحكومة والمجلس للارتقاء بالكويت وسمعتها.
الذين خططوا للتعليم وضعوا مناهج لوزارة التربية كادت تلامس المثالية، واستقطبوا مدرسين أصحاب كفاءة عالية من معظم الدول العربية الشقيقة وأخص بالذكر أساتذتنا الأجلاء من فلسطين، الذين كانوا يربون ويدرسون بإخلاص ويعاملون الطلبة معاملة أبنائهم، كان أسلوبهم المتميز يجعل جميع المواد العلمية والأدبية سهلة الاستيعاب وتثبت في أذهاننا ولا تتبخر بعد نهاية كل عام دراسي، ولسنوات طويلة مضت لم نكن نعرف شيئا اسمه الدروس الخصوصية مثل ما هو حادث الآن، والمدارس الخاصة كانت نادرة ويلتحق بها عادة أبناء الجاليات الأجنبية المقيمة بالكويت.
كان الأمن مستتبا في كل أرجاء البلد، وكان القانون يحترم وله هيبته ويطبق على الجميع. مصطلح «سرقة المال العام» كان لغزا لا يفهمه عامة الناس، ولم تكن من سمات أهل الكويت السرقة أو خيانة الأمانة أو الغش، لم نكن نعرف هذه الظواهر وكنا نشاهدها في الأفلام فقط، ومن كان يقوم بمثل هذه الأعمال ينظر إليه نظرة استنكار واحتقار، الصفقات التجارية كانت تكفلها كلمة الرجل قبل العقود المكتوبة، المحلات التجارية كانت تترك مفتوحة أو توضع قطعة قماش في المدخل للدلالة على أن صاحب الدكان غير موجود سواء ذهب للصلاة أو الراحة.
في ذلك الزمن الجميل كان كل صاحب حق ينصف ويأخذ حقه، ويعين الرجل المناسب في المكان المناسب، كانت الشهادة والكفاءة وليست الواسطة هي المعيار للتعيين في الوظائف الحكومية أو للترقية في المناصب الإدارية، ولم يكن لأعضاء مجلس الأمة دور في الأمر مثل ما هو حاصل في وقتنا هذا.
نظرا لما تمتعت به الكويت من سمعة طيبة بدأت عدة جاليات بالوفود إلى الكويت منذ أكثر من قرن من الزمان، لهم انتماءات عرقية وطبقية وأصول متنوعة، ساهمت في تكوين نسيج المجتمع الكويتي، وكانوا معروفين للجميع وكل منهم يعترف بالانتماء لأصله، ولم يكن ذلك في يوم من الأيام موضوعا للاستخفاف أو التحقير ولم تستخدم للتنابز بالألقاب ولم يعابوا لأصولهم المختلفة، بل على العكس كانت هذه الجاليات موالية للكويت عاشوا متحابين وعملوا جنبا إلى جنب مع إخوانهم الكويتيين منصهرين في قالب واحد يصنع اللبنات التي بنوا منها مجتمعا كويتيا غير طائفي متماسكا وموحدا.
حتى الرياضة كانت الكويت دائما في المقدمة، وعلى المستوى الخليجي كانت رائدة وتبعد بمسافات كبيرة عن أقرب منافسيها، وعلى المستويين العربي والآسيوي كانت الأولى في إحراز البطولات وتحقيق المراكز المتقدمة، وكانت من أوائل الدول العربية الآسيوية وصولا لكأس العالم.
لم نكن بلدا منزها، لكن كانت مشاكلنا لا تقارن بما يحدث اليوم، اليوم كل تلك الأمجاد تبخرت، وانقلب الوضع في البلد رأسا على عقب، وهناك الكثير من الظواهر الجميلة اختفت واندثرت لا مجال لحصرها، هذا غيض من فيض، الكويت تنهب وتسرق وفي الحلق غصة والقلب يعتصر على الكويت التي أراها تنزف ولا أستطيع عمل شيء لإنقاذها غير التوجه بالدعاء إلى الله العزيز القدير أن يحفظ الكويت وأهلها من كل مكروه، آمين يا رب العالمين.
[email protected]