إن من أعظم أهداف الرسالة المحمدية بناء الفرد الصالح والمجتمع الفاضل وفق المنهج الرباني بالتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل لإيجاد الإنسان الخليفة والأمة الربانية المتآلفة المتآخية المتوادة التي يعمل فيها الفرد لمصلحة الجماعة، والجماعة لمصلحة الفرد، في توازن وتناسق وتكامل يؤدي الى إيجاد المجتمع الفاضل والأمة الفاضلة والإنسانية السعيدة التي لطالما راودت احلام الفلاسفة والمصلحين والمفكرين عبر السنين، وظلت في عالم الخيال، ولم تتحقق في عالم الواقع إلا في ظل التربية القرآنية والقيادة النبوية. فالأمة المسلمة ليست تكتلا او حشدا او كيانا عدائيا، تقيم علاقاتها بالآخرين على أساس الهيمنة والقهر العقائدي، بل هي في المفهوم الإسلامي مشروع راق للحضارة الإنسانية التي تجسد معنى الاستخلاف في الأرض، وهذا هو معنى «الخيرية»، التي هي مضمون حضاري يحقق، وليست لقبا يعطى أو صفة تضفى. في هذا السياق، تناولت د. فاطمة عمر نصيف في كتابها "الأخلاق في الميزان" مفاهيم تتعلق بموضوع الأخلاق من زوايا عدة ستنشرها "الأنباء" تباعا في حلقات.
إن الضوابط الأخلاقية التي وضعها الشارع للطلاق كثيرة نجدها في سورتي «البقرة» و«الطلاق» بالتفصيل، حماية وحفظا لحقوق النساء، أذكر إحدى هذه الحالات وهي حالة الطلاق قبل الدخول. قال تعالى: (لا جُناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسّوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المُقتر قدره متاعا بالمعروف حقّا على المحسنين. وإن طلقتموهن من قبل أن تمسّوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير ـ البقرة: 236 و237). فالواجب على الزوج في حالة الطلاق ان يعطي مطلقته المتعة، وذلك أن يمنحها عطية حسبما يستطيع كنوع من التعويض له قيمته النفسية، لأن الانفصال ينشئ جفوة ممضة في نفس المرأة ويجعل الفراق طعنة عداء وخصومة، فالمتعة تذهب تلك الجفوة وتزيل الشعور بالبغض والحقد، ويشيع جوا من الراحة ونسمة طيبة من الإحسان.
فيخلع على الطلاق جو الأسف والأسى فهي محاولة فاشلة اذن وليست ضربة مسددة، ولهذا يوصي بأن يكون المتاع بالمعروف استيفاء للمودة الانسانية واحتفاظا بالذكرى الكريمة، ويلوح بالمعروف والإحسان فيندي بها جفاف القلوب واكفهرار الجو المحيط يلاحقها باستجاشة شعور التقوى ويلاحقها باستجاشة شعور السماحة والتفضل ويلاحقها باستجاشة شعور مراقبة الله ليسود التجمل والتفضل جو هذه العلاقة ناجحة كانت ام خائبة، ولتبقى القلوب نقية خالصة صافية موصولة بالله في كل حال.
ومما يتمشى مع الإيحاءات القرآنية في هذا المجال تقرير المتعة لكل مطلقة المدخول بها وغير المدخول بها، والمفروض لها وغير المفروض لها، قال تعالى: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ـ البقرة: 241)، لما في المتعة من تندية لجفاف جو الطلاق وترضية للنفوس الموحشة بالفراق، وفي الآية استجابة لشعور التقوى وتعليق الامر به.
ج- الأخلاق والقانون الدولي
القانون الدولي هو ما يسمى العلاقات الدولية بين الدولة الاسلامية وغيرها من الامم، ان هذا القانون قد حدد هذه العلاقات تحديدا حاسما، تضمن علاقاتها مع الدول والمجتمعات الأخرى بكل اشكالها في حالتي السلم والحرب، وهو في مجموعه يعطينا صورا مضيئة للأخلاق الإنسانية والمبادئ السامية، ومن ذلك الوفاء بالمواثيق، فلقد كان الوفاء بالعهود والمواثيق من اعظم ما تمسك به المسلمون، بينما نجد الأمم قديما وحديثا تبرم المواثيق والعهود، حيث تراها صفقة رابحة او حين تضطر مقهورة الى ابرامها ثم تنقضها كلما رأت في نقضها مصلحتها.
فقد كانت الأمة الاسلامية حريصة على الوفاء بميثاقها حتى ولو كان في ظاهر الأمر هو للمسلمين صفقة خاسرة كما حصل في صلح الحديبية، وهذا الحرص الشديد من المسلمين على الوفاء بمواثيقهم هو استجابة واقعية لأمر الله لهم، قال تعالى: (وأوفوا بالعهد ان العهد كان مسؤولا ـ الاسراء: 34)، (وأوفوا بعهد الله اذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ـ النحل: 91)، ولن تكون هذه المبادئ شعارات ترفع، وانما كانت وسائل عملية في حياة المسلمين لأنهم نظروا للنظام الأخلاقي على انه عبادة وعلاقة بين الإنسان وربه قبل ان تكون علاقة بين فرد وفرد، او بين الفرد والمجتمع.
فالوفاء بالعهود والمواثيق وتحريم الغدر والخيانة في الظاهر والخفاء من احكام الإسلام القطعية النافذة على الأفراد والجماعات، وليست مجرد مبدأ خلقي يستعمل حينا ويهمل حينا آخر حتى تصبح المعاهدة مجرد قصاصة ورق ـ كما هو الحال في العرف الدولي. ومن ثم فقد أسس الإسلام علاقته مع غير المسلمين على المسالمة والأمن لا على الحرب والقتال مادام السبيل ميسرا لنشر دين الله وابلاغ رسالته للناس دون ان يحول الحكام الطغاة بين الدعوة وشعوبهم.
د ـ الأخلاق والقضاء
ان اهم ما يميز القضاء في ظل الشريعة العدل والمساواة امام القانون، ولأهمية الناحية الخلقية في منصب القضاء نهى الشارع الحكيم ان يحكم القاضي وهو غضبان او متأثر بمرض او جوع او عطش او حر او برد او سآمة او كسل، فقد ورد في الحديث عن عبدالرحمن بن أبي بكرة قال: كتب ابي وكتبت له الى عبيد الله بن ابي بكرة وهو قاضي السجستان الا تحكم بين اثنين وانت غضبان فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحكم احد بين اثنين وهو غضبان».
«يقول: وفيه النهي عن القضاء في حال الغضب، قال العلماء: ويلتحق بالغضب كل حال يخرج الحاكم فيها عن سداد النظر واستقامة الحال كالشبع المفرط والجوع المقلق والهم والفرح البالغ ومدافعة الحدث وتعلق القلب بأمر، وكل هذه الأحوال يكره له القضاء فيها خوفا من الغلط».
لقد التزم القضاة بآداب الإسلام وأخلاق الشرع في الرعيل الاول وسطر لنا التاريخ القصص العجيبة التي كانت اغرب من الخيال كقصة علي رضي الله عنه والدرع واليهودي، وقصة عمر بن الخطاب وابن القطبي، وهذا يدل على ان الامة الاسلامية قد طبقت العدل في عالم الواقع ولم ترفعها شعارات خاوية، ولم تناد بها كمثل عليا.
هـ ـ معاملة الرقيق والخدم
لقد حظي الرقيق والخدم في ظل الشريعة الاسلامية برعاية فائقة ومعاملة فريدة من نوعها، فقد امر الله عز وجل المسلم بأن يعامل خدمه ورقيقه معاملة خاصة تقوم على العدل والرفق، فقد امر بالإحسان إليهم، عندما امر بالإحسان الى الوالدين وبقية فئات المجتمع في قوله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا ـ النساء: 36)، الى قوله (وما ملكت أيمانكم). «وقوله تعالى: (وما ملكت أيمانكم) وصية بالارقاء لان الرقيق ضعيف الحيلة اسير في ايدي الناس، فلهذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه جعل يوصي امته في مرض الموت يقول: «الصلاة وما ملكت أيمانكم»، فجعل يرددها حتى مات يفيض بها لسانه».
وكان من توجيهاته صلى الله عليه وسلم للاحسان في معاملتهم ان يشاركوهم في مأكلهم وملبسهم وان يساعدوهم فيما شق عليهم من عمل، عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل الا ما يطيق».
وكان من وصيته صلى الله عليه وسلم في الإحسان الى الخدم انه قال: «اخوانكم خولكم جعلهم الله تحت ايديكم فمن كان اخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم» والخول هم الخدم سموا بذلك لانهم يخولون الامور أي يصلحونها. بل ان الإسلام ارتقى في معاملة الخدم الى مرتبة عليا فلم يسمح للمسلم بأن يحقر رقيقه او خدمه او حتى يجرح مشاعرهم، بل حافظ على كرامتهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «ولا يقل احدكم عبدي امتي، وليقل فتاي، فتاتي، غلامي». وهكذا ضمن الاسلام للرقيق حقوقه الانسانية، وعامله كفرد داخل الاسرة المؤمنة لا كطبقة ثانية مكلفة بالخدمة مهضومة الحقوق ـ كما هو الحال في المدنيات القديمة والحديثة.
كما ان نظام المكاتبة خير شاهد على كرامة الرقيق في ظل الشريعة الاسلامية.
ومن الاحاديث الكثيرة التي جاءت في احسان معاملة الخدم أختار هذا الحديث: عن ابي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اذا اتى احدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة او لقمتين او اكلة او اكلتين فإنه ولي علاجه».
وفي رواية: ولي حره وعلاجه، اي عند تحصيل الاته، وقيل: وضع القدر على النار، ويؤخذ من هذا انه في معنى الطباخ لتعلق نفسه به، بل يؤخذ منه الاستحباب في مطلق خدم المرء ممن يعاني ذلك، وهكذا يكون الإحسان للخدم في دين الله «دين الإحسان».