في ما يسمى «بالنخب» لم يعد لأحد فسحة للتفكير، والقلة التي تفكر تفعل بعد أن تكون قد شكلت فكرة أو أكثر من خارج قناعاتها، فتقرأ مسوخا من العقل على شكل تصريحات وكتابات غرضها «نحن هنا» فحسب، فلك أن تتصور حجم الشطط.
يتجول بين وسائل التواصل ليصوغ قناعاته، وهذا ليس دورها، هي ليست إلا خدمة للنشر ولتدفق المعلومات، تشكيل العقل يمر بمراحل أولها الأسرة ثم التطور البيئي من قاعات الدرس الأكاديمي، والكتب العلمية، مع صقل التجربة بمحك العمل بما تعلمته، وحفظ المبادئ على مذابح القضايا الكبرى.
أما وسائل التواصل كما أسموها «وسائل تواصل» لا «وسائل تعليم وتثقيف» هي ناشر وناقل لا مشكل، والبعض استخدمها بعكس ما وضعت له، فسبت بجريرته لا بذنبها.
أفهم أن العامة يلتقطون الخبر منها، ومنهم من يسعى للريادة بلا تبين في مواقع مقياسها للشهرة كمي لا نوعي، بينما الصحافي والمثقف والإعلامي والمحلل السياسي والاقتصادي، كيف ينضم «لمنظمة التكاثر بالأرقام» وينسى مهمته «النوعية» في المجتمع؟!
ترديد ما تتداوله المواقع ليس من مهام الطبقة التي يثق الناس بها، أو بمؤسساتها، فالببغاء يمكنه أن يكرر الكلام بجهد بسيط من التدريب، أما النخب فهي رسامة الفكر ونحاتة العقل وهي حبر الأقلام، فالمسؤولية كبيرة وضخمة ومن المعيب أن يكون ممن ينطبق عليهم مثل «باب النجار مخلع»!
مثلا: إذا كان طبيب العيون الذي تختاره ليجري لك جراحة «ليزك» لتتخلص من النظارة يلبس النظارة، صعب أن تقتنع أن العملية هي الخيار الأمثل والقرار الأفضل، والحقيقة أن أغلب الأطباء بنظارة، وجراح التجميل أنفه معقوف!
لقد كنت من الشهود على الإعلام والصحافة في الكويت منذ العام 1988، كممارسة للعمل الإعلامي، أيضا تجولت في كثير من مؤسسات الإعلام في العالم الغربي والأمريكتين، النتائج متشابهة والسلوك النخبوي ذاته.
بعد عمر قضيته في قصر صاحبة الجلالة، وممراته التي تنير تارة وتظلم تارة أخرى، اختبرت تقلب المواقف حسب الأسماء التي سيؤثر فيها الموقف، ونكوص المبادئ حسب المصالح، وانهيار البعض وعلو البعض، وكثير من التأرجح وعدم الثبات على رأي.
ورأيت البعض يعرضون في «بازار بيع الجملة» أغلى ما يملكون في سبيل الحصول على دعوة عشاء على مائدة النخب الكاذبة، والجلوس بقرب صاحب الدعوة!
وكذلك شهدت على وجود قلة قابضة على جمر القيم والمثل العليا، لا يضرهم من خذلهم، ولم تمس مؤامرات القصر إيمانهم بمبادئهم، وليس لهم ثمن.
رأيت البلاط الإعلامي مثل بركان، لا يعلم أحد متى ينشط ويثور ومتى يخمد ويغفو محتضنا حممه، يراقب بتربص.
وقد تتساءلون لم التركيز على وسائل الإعلام في وصف النخب المثقفة والساسة والمفكرين وغيرهم؟ الإجابة: لأنها «أفواه» تلك النخب.
وسائل الإعلام هي «ناشر» الفكرة، هي السبيل لكشف ماذا تحت «الغترة والعقال» وحسن الهندام، وهي «المايك» الذي يخبرك ما تصدع به الحنجرة المزينة بربطة عنق!
لذلك هي وسيلة لا غاية، النخبوية تتشكل في الأسرة والبيئة الحاضنة والعلم الأكاديمي وإحناء الرأس للكتب لا «للجهاز النقال واللابتوب والآيباد» لعمل «قص ولصق» مواكبة لعصر السرعة!
فمن الإعلام التقليدي إلى وسائل التواصل الحديثة لم تتغير الأسس التي تتحكم في «النخب».
ومن رحلة الربع قرن وما يزيد، اكتشفت أن أغلب نخب «الغترة والعقال صلعان»، وأن النخبوي بربطة العنق لا يملك زمام إحكام أو إرخاء عقدتها.
فعن أي نخب إذن نتحدث؟! إنه مسرح للعرائس.
مع كامل الاحترام للدور الترفيهي الإيجابي لهذا المسرح في طفولتي.
kholoudalkhames@