كانت تدور كذبابة ضلت طريقها بين أروقة المحكمة وعيناها تدققان في أرقام القاعات، بعد جهد اكتشفت أنها في الطابق الخطأ، وكأنها ستلحق بركب أخير أسرعت باتجاه السلالم، وشفتاها ترجفان وصعدت طابقين ودارت مع عقارب الساعة ثلاثة أرباع الدورة لتصل إلى القاعة وتدخل وهي تقمع لهاثها.
تنظر لها محاميتها بتأنيب على التأخير، ينظر لها القاضي بغضب معتبره عدم احترام لشخصه، بينما نظرة شماتة واستهزاء أرسلها طليقها بطرف خفي لئلا يكشفه أحد في القاعة، لم تهتم وتقدمت إلى المنصة، منتعلة حذاء رياضيا وعباءة اغبرت أطرافها من تراب الممرات المليئة به مع رماد وأعقاب السجائر، مع أن التدخين ممنوع في قصر العدل، ولكن ليست كل القصور تتبع القوانين، طلبت الحديث من المحامية، ولما أعطاها القاضي الإذن قالت:
منذ أن طلقني لم أحصل على نفقة، وهذا قبل عام تقريباً ولم أشتك بانتظار أن يتفهم ويتفاهم ولكنه أبى وازداد عناداً وظلما، لقد تنازلت عن نفقتي، لا أريدها وكل حقوقي الشرعية، ولكن أبناءه هل طلقهم أيضاً الأخ القاضي؟! لقد نمنا فوق وسادة لسنوات، وأحسن إلي حينا وأساء حينا، وأنا كذلك وتعذرت معيشتنا الزوجية فخلعت نفسي منه، ولكن هو بامتناعه عن الإنفاق على عياله هل يخلعهم منه؟! لا أدري الأخ القاضي لم لا يسكن عياله ويوفر مأكلهم وكسوتهم، لا أريد منه مالاً، ليدفع هو سكنهم ويشتري طعامهم وملابسهم. وسكتت.
في ملفه أودع محامي الزوج أوراقاً ثبوتية أنه لا يعمل وليس له دخل ثابت، وأنها تعمل ولديها عائلة ثرية!
لا يعلم أن العائلة الثرية خاصمتها بسببه، بسبب مشاكله معها ودفاعها عنه حتى بلغ الأمر الانفصال، وأن العائلة رفضت الطلاق كحل، ولن تقبل دعم قرارها، وهكذا الأمور عندما تتزاحم، تتراكم.
في جلسة واحدة فقط حكم القاضي بنفقة 100 دينار، مائة دينار فقط لإعاشة طفلين؟ قالت: لا بأس «العوض ولا القطيعة»، بعد مرور ثلاثة شهور ولم ينفذ الزوج الحكم ولم يدفع نفقة الأبناء التي لا تغني من جوع، رغم أنها أرسلت لعائلته ولكن ليس لأحد عنده خاطر ولا «حشيمة»!
سُدت الطرق عدا الشكوى، بينت لها المحامية أنه في حال التعثر في السداد عليه التنفيذ أو السجن.
وجمتْ المرأة، أأسجن «أبو عيالي» وربي قال «ولا تنسوا الفضل بينكم»؟! كيف أستطيع أن أرى وجه أبنائي إن سجنت أباهم، ما هي القدوة التي سأعطيها لهم في البر والإحسان؟!
بعد حوارات طويلة بينها وبينها، استعانت بالله وتركته لعدله جل جلاله، هذه القصة حدثت في العام 1996.
في عام 2016 تحقق وعد الله للمظلوم «وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين» وكانت مظلومة محرومة من حقوقها ولم ينصفها القانون، فبمجرد إثبات ورقي أن الزوج المطلق ليس له دخل ثابت، يعفيه من النفقة، وحتى إعانة الدولة لكل طفل الـ«50 ديناراً» والتي يبدو أن القاضي أصدر حكمه بالحد الأدنى للنفقة بناء عليها، تودع في حساب الأب سواء كان متزوجاً من أمهم أم لا، لم يدفعها.
اتصل بها منكسراً شاكياً حاله، بعد أن صار الطفلان شابين، لقد ألقت به المرأة في الشارع، تلك التي ضحى بهما في سبيلها وتزوجها وأنجب منها كثيرا من العيال، رفعت عليه دعوى طلاق وأخذت المنزل ودفعت به للشارع بلا مكان ولا مأوى، قاطعه عياله منها دعماً لأمهم، فمن كان له الصدر الطيب؟ الاثنان اللذان رفض أن يطعمهما ويكسوهما ويسكنهما، كانا يسليانه ويتواصلان معه وعرضا عليه السكن في ديوانية بيتهما، أي بيت أمهم التي ظلمها، ولكنه كان على علاقة بزوجته الثالثة فتزوج ليجد من يؤويه! ولهذه حكاية أخرى ليست شأننا.
كم نحتاج الإيمان بأن وعد الله حق؟ كم نرتاب ونترقب عدل قاض أو عائلة أو دولة؟ لنعتبر أن الله العدل فقط، وكل عدل دونه وفي نقص.
kholoudalkhames@