الفطرة السليمة والنفوس العذرية تجنح للصلح الذي هو خير وتميل إلى الانصهار المسالم في بوتقة واحدة، إذا ما رد الأمر إليها وكان لها الاختيار، وحتى يرجى له الدوام، أي الصلح، فلا بد أن يقوم على أسس متينة وطريق واضح، وقبل ذلك أن ترد الحقوق إلى أهلها وترجع للأشخاص اعتباراتهم التي جرحت من جراء التنابذ والاختلاف دون بينة ولا برهان سوى التخرصات التي تعدي ولا تبري، والأهم من هذا كله أن يكون الصلح خالصا لأجل الائتلاف ولم الشعث وجمع الشمل لا لأغراض دخيلة وغايات مريبة، وإلا كان كإيمان فرعون حين أدركه الغرق ولات حين مناص.
هذه المقدمة تناسب الأقاويل المترددة بشأن التماس المصالحة من قبل بعض المحسوبين على ما يسمى بالمعارضة مع السلطة بعد السنين العجاف التي أرجفت البلاد والعباد وطال أذاها القاعد والقائم تزامنا مع الخريف العربي الذي خرجت فيه الجماهير العربية لحتفها وسقمها وجلبت معه الوبال والخذلان على بلادها، ولم تكن ما تسمى بالمعارضة بمنأى عن هذا الخروج العربي الذي بلغت فيه أوجها، وما كان لها أن تنشط وتبث في حراكها الروح لولا هذا الخريف الذي أعقبه شتاء الفرقة والاحتراب، ولا مبالغة في القول انها رأته غنيمة لا تسنح كثيرا للضغط وإملاء المطالب وفرض الشروط والوصول إلى غايات طموحة أعلى مما هي متاحة في الدستور، تدفعها حماسة التغيير الذي أطاح بأنظمة وجاء بأخرى، وارتفعت فيه النبرات الحادة والأصوات المتحدية والهمز واللمز برسو الخريف في دول الخليج العربي ان عاجلا أو آجلا.
لم تفكر ما تسمى المعارضة حينئذ إلا بالمكاسب التي يمكن أن تحققها في زمن علت فيه الدهماء والغوغاء وتوارى العقلاء في جنبات الساحات والميادين يتأملون فيها الأمواج المتلاطمة من البسطاء والعامة ويستمعون ساخرين لأصواتهم المبحوحة التي تتوعد فيها بإسقاط هذا النظام أو ذاك، لم تنظر ما تسمى المعارضة حينذاك إلى ما يمكن أن يذهب بريح الكويت إلى غير رجعة ويسقط أمنها واستقرارها في هوة لا قرار لها، وإنما كانت تتشوف لسقف عالية، وأخذها الغرور في حشد الشارع كل مأخذ وكأنما بيدها النهي والأمر.
لنا كل الحق في طرح سؤال على ما تسمى المعارضة، وهو: لماذا التماس المصالحة الآن؟ أبعد أن انفض الشارع وتجلت حقيقة المزاعم والافتراءات التي سيقت وألصقت برجال دولة منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر لم يعرف عنهم إلا الصدق والإخلاص للكويت وولي أمرها، والطاعة له في المنشط والمكره؟ أبعد أن فرغت الحيلة وعدمت الوسيلة؟ أبعد أن انهارت الأركان وتهدم البنيان؟ أبعد أن خسر الرهان وانقطع العنان؟
كنا سننحني إجلالا لما تسمى المعارضة لو أنها غلبت العقل وجنحت للسلم في زمن الخريف العربي ولم تنجرف مع التيار الذي نشد التغيير لأجل التغيير فحسب، كنا سنرفع القبعات لو أنها وضعت الكويت وأمنها واستقرارها نصب أعينها دونما نظر لمآرب سياسية هزيلة لربما أتت على الأخضر واليابس، كنا سنمد اليد البيضاء ليس لأجل المصالحة والمصافحة فحسب بل لأجل أن نلتزم إخوانا لنا وشركاء في الوطن لو أنهم أنصتوا لنداءات العقلاء والحكماء، لكن طلب المصالحة الآن بعد أن أسقط في أيديهم يجيز لنا أن نذهب بعيدا في ظنوننا ويجعلنا نقدم رجلا ونؤخر أخرى، فالصلح ربما كان من العاجز كمينا، لكنه من القادر، بلا ريب، بسالة.
من يضمن أن يكون طلب الصلح هذا مجرد مناورة حتمتها الظروف ومرونة فرضها الواقع؟ من يضمن ألا تعود ما تسمى المعارضة لما اقترفته لو تكرر زمن الخريف العربي؟ لا أظن بحال أن ثمة ضمانات يركن إليها تستطيع أن تقدمها حتى نتوثق تماما من صدق نيتها في طلب المصالحة.
على ما تسمى المعارضة قبل أن تسعى للمصالحة أن تعلن التوبة النصوح وتعتذر اعتذارا لا لبس فيه عما أحدثته من شروخ عريضة في جسد الوطن وانقسامات حادة بين أبناء الأرض الواحدة، وأن تتبرأ من المعاندين الذين لايزالون يتحينون السانحة حتى يمارسوا عبثهم وينشروا فوضاهم، كما عليها أن تعلن خضوعها للقضاء وأحكامه بعد أن شغبت طويلا بشأنه حتى تطاول السفهاء على رجاله الذين ما عهد عليهم إلا النزاهة والحياد، أما السعي للمصالحة دونما إعادة الأمور إلى نصابها الأول، فالظن أنها لن تتحقق فضلا عن أن يكتب لها الاستمرار، قال تعالى: (عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام).
٭ منعطف: المتجرون من وراء المصالحات لا يستحقون منافعها وكفى.
mohd_alzuabi@