[email protected]
يتحدد معنى «الأقلية» Minority كمقابل لمفهوم الأكثرية Majority. معظم المجتمعات فيها أكثر من أقلية واحدة، والسيادة في المجتمع لا تكون بالضرورة للأكثرية، فكل الدول القمعية تحكم فيها أقلية رغما عن الأكثرية وبقية الأقليات. أما حكم الأكثرية فهو من أهم خصائص المجتمعات الديموقراطية.
***
يطرح عالم الاجتماع الأميركي المعاصر ألبرت هيرشمان تمييزا كلاسيكيا لوجود الأقليات والأكثرية وعلاقتها بوحدة أو انقسام المجتمع، ويقول في ذلك ان الأقليات في أي مجتمع تواجه بثلاث استراتيجيات ممكنة: فهي إما أن تخضع لإرادة الأكثرية وهنا يحافظ المجتمع على وحدته وفقا لمفهوم «الولاء»، وإما ألا تقبل الأقلية بحكم الأكثرية فتتخذ دور «المعارضة»، وهنا نكون بإزاء فريق ينتظر دوره لتسلم السلطة يوما ما. والمعارضة تلعب دورا مهما في الحفاظ على مكتسبات الأقلية التي تمثلها، والحد من تفرد الأكثرية بالقرار وابتلاع الثروات، وتتقاسم معها السلطة حتى لا يقع المجتمع فريسة ما يسميه توكفيل وليبراليو القرن التاسع عشر بـ «طغيان الأكثرية». كلا النوعين ـ الولاء والمعارضة ـ نجدهما في المجتمعات الديموقراطية تحديدا، والتي استطاعت أن تبلور تصورا واقعيا للتعايش السلمي بين مكونات المجتمع المتعدد.
***
الاستراتيجية الثالثة الممكنة حسب هيرشمان هي «الانفصال»، وهو النموذج السائد في المجتمعات ذات النظم الديكتاتورية التي لا توجد فيها أحزاب سياسية (حقيقية) تمثل الأقليات المتعددة في المجتمع، وتنحصر فيها السلطة والثروة بيد من يحكم، وتوابعه ممن يخدمون مشروع الحكم، ولا يهم هنا العدد، فالغلبة للهيمنة وامتلاك وسائل القمع. يقول الفيلسوف الفلسطيني المعاصر د. عزمي بشارة بعمق: «الأكثرية غير المنظمة، أقلية».
***
رغم أن تاريخ البشرية في مجمله هو تاريخ حروب في محاولات القضاء على إحدى الأقليات، إلا أن الواقع أثبت استحالة تحقيق هذا الهدف، إذ لم تتمكن أي أكثرية من سحق أي أقلية مهما بلغت الخسائر في الأرواح. أراد هتلر القضاء على اليهود لكنه فشل رغم أن عددهم لم يتجاوز حينها سبعة ملايين كما تؤكد الموسوعة البريطانية. لم يتمكن البوذيون من التخلص من المسلمين في اقليم شينغيانغ أو في بورما وغيرها، لم يتمكن البيض من سحق الهنود الحمر أو السود في أميركا، لم يتمكن الشيوعيون من القضاء على الأديان والمتدينين في الاتحاد السوفييتي.. لم تتمكن أي جماعة مهما كان عددها وقوتها من إفناء جماعة أخرى مهما كان ضعفها وقلة أفرادها. ولذلك، ما تشهده بعض الدول العربية من محاولات «تطهير طائفي» ما هو إلا عبث وهدر في الأرواح والثروات بلا طائل، ولن ينتج عنه سوى معاناة لعدد كبير من البشر الأبرياء بلا مبرر، بل انه سيترك أثرا سيئا ورغبة شرسة في الانتقام تنتقل من جيل إلى جيل.
***
في الغرب مساوئ كثيرة، لكن فيه أيضا الكثير مما يستحق التقدير والإشادة بوصفه نموذجا يحتذى، منها مسألة تجاوز الصراعات الدينية والقومية والاستقرار على مبدأ التبادل السلمي للسلطة والاعتراف بالآخر واحترام حقوقه، هذا المبدأ الذي يعد من أهم المكتسبات الأساسية للمفهوم الدستوري للديموقراطية هو سر تقدم الغرب. صحيح أنهم لم يصلوا إليه إلا بعد تاريخ مرعب من الحروب الأهلية المتوحشة، لكن هل علينا أن نمر بذات الطريق وندفع نفس الثمن؟!
***
يشهد عالمنا اليوم ردة واضحة عن قيم التعايش السلمي، والحق أن جوهر المشكلة ليس أن العنصريين أكثر عددا، فهم أقلية، لكن المشكلة في صمت الأكثرية المتسامحة. نحتاج أن نستنكر العنصرية علناً.