في عام 2002 أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقريرا في غاية الأهمية عن «التنمية الإنسانية العربية»، شخّص فيه نخبة من المفكرين أهم مشكلات العالم العربي والتي حددوها في ثلاث: عدم احترام حقوق الإنسان والحريات العامة، عدم تمكين المرأة والسماح لها بلعب دور في البناء والنهضة، وأخيرا خلل واضح في المعرفة وطرق اكتسابها (خلل في النظم والمناهج التعليمية). وذكر التقرير صراحة أن العالم العربي سيعاني من مشاكل حقيقية تتطور من سيء لأسوأ ما لم يتم إيجاد حلول حقيقية لهذه المشكلات وهذا الخلل. بعد 9 سنوات من صدور هذا التقرير، في عام 2011 تحديدا، انطلقت ثورات الربيع العربي والتهمت الأخضر واليابس ولا تزال منطقتنا على كف عفريت!
***
هذه العقلية ليست جديدة.. في عام 1917 كتب اللورد آرثر بلفور رسالته الشهيرة التي عرفت لاحقا باسم «وعد بلفور»، وفيها يدعو بلاده بريطانيا صراحة بإعطاء فلسطين لليهود لتكون وطنا قوميا لهم، ووضع خطة معلنة لتحقيق ذلك. وفي عام 1948 (أي بعد 31 عاما) أصيب الانسان العربي بالصدمة والذهول من إعلان قيام «دولة إسرائيل»!
***
من هو المثقف الحقيقي؟ يمكن أن نقضي ساعات وأياما في نقاش فلسفي حول هذا المصطلح لا شك، لكنني ماركسي جدا هنا. فالمثقف بالنسبة لي يتعلق بالسلوك أكثر من التنظير. المثقف الحقيقي كما يقول الفيلسوف الماركسي الايطالي أنطونيو غرامشي هو من يقوم بدور فاعل في اصلاح المجتمع، وليس من يتفلسف أو من يحمل الشهادات العليا. الفيلسوفة الماركسية الكبيرة روزا لوكسمبورغ كانت تنتقد المثقفين التنظيريين الذين لا يتجاوزون التنظير إلى الفعل، فما بالكم بمعظم من يعتبرون أنفسهم مثقفين في عالمنا العربي البائس اليوم وهم يقومون بأسوأ من هذا بكثير.. حيث تحول كثير منهم لـ«مبرراتية» يدافعون عن قرارات بعض المسؤولين لا أكثر؟! هذا كثير.. لدينا واقع سيء، سيفرز بالضرورة صراعات مدمرة تستنزف الموارد البشرية والمادية وتحيل دولنا إلى خرائب ينعق فوقها البوم. هذا ليس قراءة فأل ولا مثل توقع نتيجة مباراة، هذا حديث علمي تتحدث عنه تقارير رسمية تصدر من الأمم المتحدة وهيئات دولية يضعها خبراء وعلماء أفنوا أعمارهم في البحث والعلم.
العالم العربي مريض جدا، الشعوب جائعة وعطشى بلا عمل ولا مصدر رزق ولا سكن ولا حتى أمل في حياة كريمة مستقبلا. هذا وضع شاذ ينتج بالضرورة ثورات تنتهي غالبا بالدمار بسبب غياب أي مشروع تنموي وسياسي حقيقي وفي ظل واقع اجتماعي متشرذم، يتقاتل فيه الناس طائفيا وقبليا ومناطقيا بل وحتى على اللهجة وتشجيع المنتخبات الرياضية. وفي واقع سيء كهذا، تتضاعف مصيبتنا في غياب نخب مثقفة حقيقية، تمتلك رؤية بعيدة النظر وتتجاوز التفاصيل الهامشية. واقع مرعب يتصدر فيه المطبلون والمهيجون وصانعي الانتحاريين، ممن لا يمانعون من تفجير أنفسهم في حشد من بشر لا يعرفونهم دون أن يقفوا لحظة تأمل وتسائل.. لماذا؟! لدينا مشكلة كبيرة، وأكبر ما فيها أن يتحول المثقف إلى «وطنجي» يبرر أخطاء ويدافع عن حماقات ويسوق ذلك على أنه «وطنية».
[email protected]