ناصر الخالدي
في طفولته كان يحلم ويتمنى ويرى العالم ملكه، يسافر بخياله فيطوف الدنيا في لحظة واحدة، عاش طفولة لم تعرف إلا التعب والشقاء على الرغم من انه عاش اول ما عاش في رغد ونعيم، ثم دارت الأيام فانتقل من رغد العيش وسعته الى الهواجس والظنون، لم يكن وقتها يتجاوز الثانية عشرة من عمره عندما اكتشف انه مختلف عن بقية الأطفال وانه ممنوع من الحلم ممنوع من التمني ممنوع من كل شيء وانه منفي بلا ذنب مطرود بلا جريمة ليس له وطن وان تعددت الأوطان.
اختنقت الكلمات في فمه، فلم يستطع التعبير عما يدور بداخله وصار يزداد حزنا يوما بعد يوم ويخاف ان يقف احد ما على امره ويكتشف الحقيقة، ولذلك كثيرا ما كان يتهرب من أسئلة أقرانه وكثيرا ما كان يلجأ الى الوحدة والانطواء ويتمنى لو انه عاش في وهم وخداع بعيدا عن هذا الواقع المؤلم.
أما الحقيقة التي اكتشفها فهي موجودة لا تختفي ولا تغيب إن لم يكتشفها اليوم فلا مفر من اكتشافها في الغد، وليس افضل من المواجهة والحقيقة التي اكتشفها في طفولته هي التي دفعته للابداع والتميز وهي التي جعلته يعيش من اجل الآخرين، ولولاها لكان في خانة الكسالى الخاملين، والحق انه غزير العاطفة، كثير الدمع، تؤثر فيه الكلمات والمواقف لا يرضى بالظلم ولا بالغدر ولا بالخيانة ينادي بالسلام والمحبة والاخاء ويشدو بالحب والوئام، عرف الغربة فلا تراه للغرباء الا أخا يواسيهم ويحنوا عليهم ويشاطرهم الحزن والالم، عرف الظلم فلا تراه إلا نصيرا للضعفاء المستضعفين.
غابت شمس الطفولة فتنفس اولى نسمات الشباب والفتوة وخطا اول خطوة في درب المراهقة فرأى الحياة وقد اختلفت عما كانت عليه ايام الطفولة ورأى اصدقاء المراهقة لا يعرفون البراءة التي تعود ان يراها في اصدقاء الطفولة فخفق قلبه من الخوف وارتعد من القلق ثم ما لبثت ثورة الشك ان هدأت في داخله.
كان يحب الأدب ويعشق الشعر فانشغل بمطالعة الكتب وراح يفتش عن الفرائد والفوائد، تعجبه الكلمات فيحفظها، وتشده الأبيات فيرددها وهكذا حتى صار ذكي المشاعر مرهف الذهن يقظ الفؤاد متوقد الذكاء سريع الادراك دقيق الفهم واسع الاطلاع غزير المعرفة، وتعود على مجاراة الظروف فلم تعد الهواجس تخيفه وما عادت تخطر عليه الخواطر القديمة، أما الحقيقة التي كان يخاف اطلاع الناس عليها فلم تعد سرا كما كانت من ذي قبل وصار الخبر في متناول الجميع وهو الذي اراد لها ان تنتشر فلم ير فيها ما يستحق كل هذا الخوف.
تألق وابدع وصار يحقق النجاح تلو النجاح وجعل الماضي طي النسيان فلم يعد يفكر بغير التميز، يريد معانقة الشمس ومصافحة النجوم، يرى الصعاب فيزدريها ويواجه العقبات فلا تزيده إلا إصرارا، ويتربص له الحاقدون ويفر من النكبة بعد النكبة، فلا تزيده النكبات الا شجاعة، ويمر في احلك واصعب الظروف فيخرج منها منتصرا والظروف تجر اذيال الخيبة، يقاتل من اجل الحرية واعداء الحرية لا يعرفون الرحمة يرونه مجرما يستحق العذاب ويراهم مساكين يستحقون النصح والارشاد، يقاتلهم بالكلمة ويقاتلونه بالسيف يأتون من الخلف ويقابلهم وجها لوجه وهم على كثرتهم يقاتلونه وحيدا.. (يتبع)