تخطط الدول وتنأى عن الهلاك والصعاب وترتجل درجات التقدم بموجبات ثلاثة: قيادة سياسية حكيمة، شعب واع ومتفاعل وموارد بشرية ومؤسساتية. ولقد سطر التاريخ سيرة حكام قادوا دولهم الى الخراب والهلاك كما فعل الأخنس بن شريق عندما سعى في الأرض ليهلك الحرث والنسل، فكانوا من الفجار الذين كتابهم في سجين (في حبس وضيق في النار)، وخلاف ذلك من الحكام والقادة كانوا من الأبرار الذين هم كتابهم في عليين (في أعالي الجنة). ويزداد الأمر ضراوة عندما يقصد الحاكم الى إبعاد وإقصاء الكفاءات وأن يكون «أُذن».
يعتبر أمير القلوب الشيخ جابر الأحمد الصباح، رحمه الله وأحسن مثواه، مثالا لحاكم شحذ الهمم وبنى القامات وخطط للكويت، ومنذ خمسينيات القرن الماضي لتضحى نمطا فريدا من الدول المتقدمة، حيث زرع المنافسة والقدوة الحسنة بين شعبه ولم ينأ عن شخص وإن كان قد خالفه الرأي. وقد لا يعلم البعض أن احتياطي الأجيال والاستثمارات ومعهد الكويت للأبحاث ومؤسسة التقدم العلمي هي من بنات أفكاره، ولم يقتصر أداؤه الذي شهد له القاصي والداني على تلك الأمور بل كانت له أياد بيضاء للمعوزين والمحتاجين داخل وخارج الكويت، وكان يساند المظلوم والمغلوب من شعبه.
٭ يروي الدكتور الداعية عبدالرحمن السميط، رحمه الله، والذي أسلم على يده عشرة ملايين شخص وكانت له نشاطات جمة في أفريقيا، روى أن الديوان الأميري استدعاه لمقابلة أمير القلوب ليشرح له أنشطتهم في أفريقيا ولمدة ربع ساعة، إلا أن المقابلة امتدت زهاء الساعة والنصف، حيث كان منجذبا لأعمال أنشطتهم الخيرية. وفي اليوم التالي عندما توجه السميط الى المطار للمغادرة الى أفريقيا قابله شخص من تشريفات الديوان الأميري ليخبره بأن هنالك طائرة خاصة ستقله، وعندما ركب الطائرة الأميرية وجد أمير القلوب على متنها بملابس وجواز عاديين. وفي افريقيا غادرا المطار كوفد عامل للأخير، حيث اطلع أمير القلوب على شتى الأنشطة، وعندما عاد السميط الى الكويت كان هناك شيك من أمير القلوب، رحمه الله، بأربعة وعشرين مليون دينار من حسابه لدعم الأنشطة الخيرية، وإني أدعو الله وأحتسب أن كتابهما في عليين.
٭ وثمة حدث إنساني حدث لي شخصيا مع أمير القلوب، رحمه الله، فعندما أنهيت دراستي للماجستير بالرياضيات والكيمياء التحليلية وكنت باحثا في معهد الأبحاث اقترح علي أحد الزملاء بالالتحاق بجامعة بريطانية لتلقي الدكتوراه في تخصص جديد لا يوجد في عالمنا العربي وهو «سياسية العلوم والتكنولوجيا والبحث العلمي» مواكبا لشخصيتي وليكون لي مجال لتأطير عدة أمور في الدولة. ووافق رؤسائي بيد أن مدير المعهد المتجنس آنذاك - وهو ممن يبغضون الكويتيين الأصليين - أبى ذلك فتكدرت. وبعدها كنت في زيارة لنصير الشباب الشيخ سالم الصباح وزير الدفاع رحمة الله فسألني: مالك، وعندما أخبرته، قال اذهب وأخبرهم بأني أمهلهم يوما كاملا لتوقيع إذن البعثة، وإلا! طبعا تخوف المتجنس من ذلك ووافق. ولقد أنهيت الرسالة، بحمد الله في سنتين وأربعة أشهر.
وعندما رجعت للكويت لانتظار المنافسة حدث عارض صحي لشقيقي هز الكويت بأسرها فحضر للمستشفى حبيب الكويتيين الشيخ سعد العبدالله ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء، حيث أمرني بمرافقة شقيقي لأميركا، وحيث كان ذلك سيؤخر المناقشة حتى ما بعد الصيف وهو الوقت الذي ستنتهي به البعثة، وكان المدير المتجنس يضمر شرا لعدم التمديد، وإقصائي من المعهد.
فما كان إلا أن طلبت من السيد عبدالرزاق المشاري مقابلة أمير القلوب، ولما شرحت له الأمر اشتاط غضبا، وقال: يريدون محاربة أبناء الكويت، يا يوسف والدك يعقوب محسوب علينا، اذهب وقل لهم أنت برعايتي، فأرغموا على التمديد وحصلت على الرسالة وبعدها دراستين لما بعد الدكتوراه، وأصبحت خبيرا في الأمم المتحدة، وهكذا، لولا الله ثم أهل الحكم من آل الصباح الأعزاء وعلى رأسهم أمير القلوب، رحمه الله، لما توصلت إلى ما أنا عليه من عطاء علمي ساهمنا فيه بإبراز اسم الكويت في محافل علمية عالمية كانت محل فخر أمير القلوب.
[email protected]