[email protected]
أتابع ما يخرج من «رواسخ» وهي مؤسسة غير ربحية تهتم بمعالجة القضايا الفكرية المعاصرة وفق أسس عقلية وعلمية ومنهجية، ويعجبني في إصداراتها محاكاة الواقع ومشكلاته وفق خطاب علمي عبر تأليف وترجمة وطباعة الكتب والبحوث الحوارية التأصيلية مستهدفة شرائح مختلفة من المجتمعات في هذا الكون الفسيح ومقرها الكويت، تلفوناتها: 0096522408686 - 0096522408787، واتساب: 0096590963369.
من ترجمات هذه المؤسسة الرائعة كتاب «هناك إله»، وهو كتاب نوعي، فبعد خمسين عاما قضاها في الإلحاد كونه أشرس ملاحدة هذا العصر وما تبع هذا من إصدارات له، صارت حجرا أساسيا لفكر الملحدين، أصدر فيلسوف الأديان البريطاني الشهير ومدرس الفلسفة في جامعات أوكسفورد وابردين وكيلي وردينج ويورك (أنتوني فلو) كتابه «هناك إله» بعد أن بلغ من العمر واحدا وثمانين عاما، ليعلن أنه الآن يؤمن بوجود إله بدافع من البراهين العلمية.
هذا الكتاب الذي صدر في عام 2018 شكل (حدث صدمة) التي أثرت في عقول مفكري الإلحاد ومنظريه لدرجة أن الكاهن الإلحادي الأشهر ريتشارد دو كينز يقول في إحدى محاضراته عن مؤلف كتاب «هناك إله» أنتوني فلو، لقد كان ذات يوم فيلسوفا عظيما!
ولكن الآن وبعد أن آمن بوجود الإله وأعلن أن قضية (أزلية العالم) قضية خاسرة أمام المعطيات الحديثة، وان قوانين الطبيعة المتناهية في الدقة لا بد لها من كاتب، وان التطور الدارويني لم يكن ليصمد أمام أدلة الكيمياء الحيوية والتي ثبت أن الخلية كانت تمثل صندوقا أسود لداروين لم يعلم عنه شيا يذكر وان آليات عمل DNA وتشفيره وترجمته تتطلب وجود مصمم ذكي وان الحل الديني لمعضلة الشر: هو الأكثر عقلانية ومنطقية بعد أن أعلن «الفيلسوف العظيم» عن كل ذلك، من الطبيعي جدا ألا يستمر دو كينز - فضلا عن بقية منظري الإلحاد الجديد - في اعتباره كذلك.
أنا وقفت طويلا أمام جهود المترجم جنات جمال في صعوبة العبارات وترجمتها، وأيضا الهوامش وما له صلة بالمعلومات إضافة الى ما يخص الاعتذار عن الإرهاق الذي قد يجده البعض من وضع أسماء الأعلام والكتب بالانجليزية داخل النص واقتضته الضرورة (لإكمال الحالة التوثيقية التي حرص عليها المترجم).
أما الدكتور محمد العوضي، فإنه يأخذك مع أنتوني فلو وجدلية النص والشخص!
وكعادته في تفنيد حجة انقلاب العالم أو الفيلسوف أو الرمز الفكري عن قناعاته السابقة!
وأنا مع مقدم الكتاب أنه انقلاب أطاح بمفاهيم أفنى أنتوني فلو حياته للتبشير بها ومكنه من يقين جديد كان بمنزلة معول هدم للأسس العقلية والفلسفية لبنائه المعرفي القديم.
ثم يواصل: في أي مراتب الحجج المنطقية يمكننا تصنيف هذا التحول الفكري؟
هل نحن أمام حجة برهانية أم جدلية أم خطابية أم شعورية أم مغالطية (سفسطية) وفق تقسيمات أهل المنطق!
بهذه التساؤلات بدأ المقدم تصديره لكتاب «هناك إله» وذلك لاعتبارات عدة أهمها:
أولا: مكانة الشخصية (أنتوني فلو) بين أصحاب النزعات المادية المعاصرة، فهو كما جاء في كتاب: «ملحدون محدثون ومعاصرون» في طبعته الأولى 1998م.
مع الأخذ بالاعتبار أن برتداند راسل وصديقه الفرد آير من أبرز مَن هاجموا الدين قبل الحرب العالمية الثانية، ويعتبر أنتوني فلو من أهم منتقدي الدين في الفترة التي أعقبت الحرب!
ثانيا: ما ترتب على قناعاته الجديدة المعلنة من ضجة إعلامية في صفوف معسكري (المؤمنين) و(الملحدين) وعلو صوت العاطفة عندهما على حساب العقل والاتزان والموضوعية العلمية.
مقدم الكتاب بما لديه من خلفية عن موضوع الإلحاد والرد على الملحدين استطاع أن يجول في هذا الفكر المنحرف ويجلي ثنائية التهويل من المؤمنين والتهوين من الملحدين مستشهدا بالكاتب عبدالله القصيمي الذي تغنى الملاحدة بردته العنيفة من التوحيد وما اتخم مؤلفاته من نقد وسخرية بالرب والدين وكذلك عودة مصطفى محمود الى الإيمان بعد شكوكه وتشكيكاته المستفزة وافتخروا بما قدمه في برنامجه الشهير «العلم والإيمان» في قرابة 400 حلقة تلفزيونية إضافة الى كتبه ومؤلفاته.
وذكر كيف رفع أهل الإيمان (الزغاريد) بعودة الفيزيائي البريطاني بول ديفيز إلى الإيمان بالخالق بعد إلحاده!
معسكران متناقضان من الإيمان والإلحاد كيف سيلتقيان؟
لقد أسهب المقدم في تساؤلاته ومداخلاته مبينا خلل التفكير في هذه التجاذبات من خلال جدلية النص والشخص!
لقد استطاع المقدم أن يعري الملاحدة من اتخاذهم رجوع أنتوني فلو (الشخص) عن الإلحاد حجة لصالح الإيمان فإنهم مارسوا المنطق ذاته ولكن بطريقة عكسية كما فعل ريتشارد دو كينز، فعوضا عن مناقشة أدلة فلو (النص) بشكل موضوعي متجرد قفزوا الى التهوين من الشخص معللين رجوعه عن الإلحاد لكبر سنه ومحاولته خطف الأضواء!
لقد ارتكب هؤلاء الملاحدة مغالطات في اعتراضهم على إيمان أنتوني فلو بوجود الاله وما أثاروه من شبهات عديدة وإشكالات فلسفية كبرى.
٭ ومضة: من بديهيات المعرفة الإنسانية ومشتركاتها أن الحقيقة العلمية والحكمة الخالدة والمعنى الجميل هي البضاعة القابلة للتبادل المعرفي العالمي والاحتفاء بها بصرف النظر عن مصدرها أو الاختلاف مع قائلها.
نحن أهل الإيمان الأولى بالاندهاش من أولئك المعترضين الملحدين الذين فقدوا الحد الأدنى من بديهيات المنطق والوعي والبصيرة، وهم يدسون شكوكهم في حجج فكرية ومنهج اتبعه أنتوني فلو وتميز به عن غيره وهنا تبرز أهمية صلة (شخصيته بنصه)، فنحن لسنا أمام مفكر تراجع عما يؤمن به وإنما مع إرادة صادقة في البحث عن الحقيقة وجهد متواصل في مراجعة المفاهيم ومحاكمتها.
٭ آخر الكلام: من يطلع على فكر هذا المفكر أنتوني فلو يجد أنه استثمر ردود الخصوم وناقديه بأن صحح أخطاءه وما مكنه من تطوير رؤيته بخلاف العديد من معاصريه ورفاق دربه من الملاحدة، ولم يكتف أنتوني فلو بالرجوع الى المصادر العلمية التي أدرجها في كتابه القيم وإنما تواصل بشكل مباشر مع أهل الاختصاص.
٭ زبدة الحچي: (ملحد شهير يؤمن الآن بالإله).. كان هذا هو مانشيت جريدة أسوشيتد بريس: Associated Press البريطانية في 9 ديسمبر 2004 وجاء في الخبر الرئيسي: أستاذ الفلسفة البريطاني الذي قاد مسيرة الإلحاد لأكثر من نصف قرن غير الآن آراءه فهو الآن يؤمن بوجود إله بصورة وبأخرى بناء على الأدلة العلمية!
وتبقى الحقيقة: إن تراجع (الشخص) بحد ذاته وتمرده على فكره السابق واستقراره على يقين جديد لا يشكل برهانا ساطعا ولا حجة ملزمة على صواب ما انتهى إليه، وإنما التعويل على (النص) الذي يشرح لنا فيه تجربته المقرونة بالأدلة والتحليل والتعليل ومن ثم الحكم لك على ما نضعه بين يديك في اختيار محتوى (النص) الا وهو كتاب: «هناك إله»!
عزيزي القارئ الكريم اليوم زاد عدد الملحدين والملحدات وتبقى القضية مفتوحة للنقاش، لكن السؤال الذي مازال في ذاكرتي الآن بعد قراءة كتاب انتوني فلو.. ما الذي أوصله إلى معرفة الحقيقة ومن ثم قوله «هناك إله» ثم تأليفه هذا المؤلف!
جميلة هي رواسخنا في معرفة الله.. وجميل هو إصدار «رواسخ»!
في أمان الله..