[email protected]
يروى أن إماما جليلا ذا حكمة وخبرة وبصيرة، كان جالسا يوما مع طلاب علمه في المسجد، إذ دخل عليهم «رجلٌ غريب» لا يعرفه أحدٌ منهم، ولا يبدو عليه مظهر طلاب العلم!
بدا لهم كأنه «عزيز» كسره زمانه وأذلته الحياة!
دخل وسلم وجلس بين صفوف الجالسين، وأخذ يستمع للشيخ بأدب جمّ وإنصات، وفي يده «قارورة ماء» ماسكا بها لا تفارقه!
قطع إمام المسجد حديثه، والتفت إلى الرجل الغريب وتفرَّس في وجههِ لحظات، ثم سأله: ألك حاجة نقضيها لك؟ أم لك سؤال فنجيبك؟
فقال الضيف باسما: لا هذا ولا ذاك، وإنما أنا تاجر، عبرت دياركم، وسمعت عن خلقك وعلمك ومروءتك، فجئت أبيعك هذه «القارورة» التي أقسمت ألّا أبيعها إلا لِمَنْ يقدرها، وأنتَ مَنْ «اختَرتُ» وأنتَ وحدك دون ريب حقيق بها وجدير!
قال الشيخ المعلم: ناولنيها، فناوله إياها، فأخذ الشيخ الإمام يتأملها ويُحرك رأسه إعجابا بها، ثم التفت إلى الضيف فقال له: بكم تبيعها؟
قال: بمائة دينار، فردّ عليه الشيخ: هذا قليل عليها!
سأعطيك «مائة وخمسين» فقال الضيف: بل مائة كاملة لا تزيد ولا تنقص!
فقال الشيخ المعلم: تفضل خذ 100، وتسلمها الضيف ومضى إلى حال سبيله «حامدا شاكرا»، وسط ذهول طلاب علمه!
وبعد أن انفض «السامر» ودخل الشيخ إلى مخدعه لينام، دخل عليه ابنه وفي وجهه أكثر من سؤال!
قال الولد: يا أبي يا حكيم الحكماء، لقد خدعك هذا «الغريب»، فوالله لقد عاينت «قارورة الماء» فوجدتها لا تساوي هذا المبلغ أبدا!
يا أبي لا أدري مَنْ منكما على حق؟
هو باعك قارورة ماء بمائة دينار بدهائه وخبثه، وأنت اشتريتها بطيبتك وتسرعك.
فابتسم الأب «الواثق الحكيم» لولده وتساؤلاته وقال: يا بني لقد نظرت ببصرك فرأيته ماءً عاديا وقارورة!.. أما أنا فقد نظرت ببصيرتي وخبرتي، فرأيت «الرجل التاجر المنكسر» الذي عزَّت عليه نفسه أن يطلب ويريق «ماء وجهه» أمام الحاضرين بالتذلل والسؤال، وكانت له حاجة في هذا المبلغ، يقضي به حاجته ولا يريد أكثر من مائة دينار.. أفهمت؟!
ومضة: يا الله، رائع هذا الرجل، قرأ إشارات الوجه وحفظ للرجل «مهابته» وماء وجهه!
أيها القراء: افهموا «حاجات الناس» قبل أن يتكلموا، الوجوه لها رسائل قد تكون ملغومة، فتمهل واعمل ما تدلك عليه بصيرَتُك!
آخر الكلام: أيها الإنسان تفقَّد وجوه أهلك وجيرانك وموظفيك وصحبك، فربما هم في حاجة وضيق، لكن الحياء يمنعهم والعفاف يلزمهم الصمت، حفظا لماء وجوههم!
زبدة الحچي: علمتني الحياة وأنا أعمل «الخير» أن أرقُب «التعفف» وهو من العفة، وهو التنزه عن السؤال، إذن هي عفة إنسان، فهو عفيف وعفّ وأعفه الله، فلا يطلب.. انتبه لهذا الإنسان.
أيها القراء: قراءة الوجوه تحتاج إلى خبرة ومع الزمن «تصقَل»، وعلينا أن نسمع ونصمت أمام أصحاب الحاجات.
اللهم اجعلنا محبين للخير، نافعين للغير، ساعين للبر، نائلين المثوبة والأجر.
قراءة الوجوه «العفيفة» تحتاج إلى نباهة «إنسان» أيها الإنسان!
الحياة مدرستنا، والمداد سلاحنا، والقارئ رفيق دربنا، فاللهم سلّم.. سلّم.. واحفظ وجوهنا من هدر الكرامة!