التطور في العلاقات الدولية والانفتاح وحركة التبادل الاقتصادي كان له واقعه على التغيير في جميع الأنماط التي تتصل وتتحكم في المصالح السياسية أو الخاصة، والتي أيضا باتت لا تعترف بحدود دولية تنحصر داخلها، بل ما يفوق التصور أننا أصبحنا من مستوردي الجرائم بعد أن كانت تمثل الحدود عقبة في وجه النشاط الإجرامي، بل أصبحت ترتكب الجريمة داخل الدولة وتحتمي بوجودها خارج حدود النطاق المكاني الذي رسمته، مما جعلنا نقف اليوم أمام الكثير من الجرائم الجنائية والقضايا الشائكة التي أصبحت حديث الكويت بأكملها في الوقت الحالي التي تحمل في طياتها شبهات بتورط شخصيات كويتية في صفقات غير مشروعة مرتبطة بمشاريع خارج البلاد.
وبعدما أثير الكثير من تلك القضايا بوسائل الإعلام وشبكات التواصل أعلنت الهيئة العامة لمكافحة الفساد في الكويت «نزاهة» مبادرتها لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بإحالة الوقائع إلى النيابة العامة، متى ما ثبت توافر شبهات فساد جدية تمثل اعتداء على المال العام سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وسببت أضرارا بالمال والمصلحة العامة أو سمعة الكويت في المحافل الدولية، وما تبعه من تقديم بلاغ من الجهة المنوطة بتلقي البلاغات عن أي جرائم مالية أو غسيل أموال أو تمويل إرهاب في البلاد «وحدة التحريات المالية»، وبهذا تتم إحالة تلك القضايا إلى النائب العام ضد أي شخصية أو جهة كويتية تتهم في قضايا تورط بغسيل الأموال وقضايا الفساد.
فوفقا لنص المادة (12) من القانون رقم 106 لسنة 2013 بشأن مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب «تلتزم المؤسسات المالية والأعمال والمهن غير المالية المحددة بإخطار الوحدة دون تأخير بأي معاملة أو أي محاولة لإجراء المعاملة بصرف النظر عن قيمتها، إذا اشتبهت أو توافرت دلائل كافية للاشتباه في أن تلك المعاملات تجري بأموال متحصلة من جريمة أموال مرتبطة أو لها علاقة بها أو يمكن استعمالها للقيام بعمليات غسيل أموال أو تمويل إرهاب».
هنا نصل للنقطة التي تفرض نفسها وهي غسيل وإخفاء الأموال التي تحصلت من «جرم أصلي» تحاط به الشبهات على مستوى دولي تم الحصول عليه بناء على وجود نفوذ سياسي ووظيفي، لتكون هذه الأموال هاربة خارج حدود سريان القوانين المناهضة للفساد المالي، لتحاول العودة مرة أخرى بصفة شرعية معترف بها من القوانين التي كانت تجرمها داخل الحدود الإقليمية التي تسري عليها هذه القوانين، الأمر الأفدح من هذا هو توجيهه تلك الأموال للاقتصاد الرسمي من أجل التغطية الكاملة لمصدرها، وهنا تكون الطامة الكبرى إذ يستمد المال شرعيته من الجهاز المصرفي والمؤسسات المالية الأخرى، والذي يرى بعض الخبراء الاقتصاديين أن الكويت وغالبية دول الخليج نظرا لقوتها المالية بجانب ضعف النظم الضريبية في بعضها، يؤدي لضعف احتمالات كشفها ومصادرتها، تعد بيئة جاذبة لغسيل الأموال.
يقضي الإطار التشريعي لملاحقة الجناة المرتكبين لجرائم غسيل الأموال وجود نظام إجرائي وطني فعال ذي أنماط مختلفة مرنة، بهدف سد الثغرات القانونية على الجناة، فكثيرا ما يحاول الجاني التهرب من النظام القانوني واستغلال إما نفوذه القوي أو التدليس والتستر ليصل لمرحلة التقادم المقرر للجرائم، بجانب اعتبار جرائم غسيل الأموال من جرائم «عرقلة سير العدالة» لأن وسائل غسيل الأموال تزيد من صعوبة كشف الجريمة، وبالتالي صعوبة تتبع عائداتها المباشرة، وذلك بنقل وتهريب الأموال المتحصلة من جرائم الفساد إلى دولة أخرى، وبهذا تكمن الصعوبة في تتبع العائدات الإجرامية في أكثر من إقليم، مما يعرقل في بعض الأحيان الاختصاص الجنائي في ملاحقة الجناة.
من واقع الأحداث والقضايا المتتالية بين الحين والآخر والتي تشير إلى تغلغل الفساد في جذور الدولة لسنوات ماضية، ظهور هذه الجرائم الآن يمثل صحوة من الجانب السياسي والقانوني، فلذلك وجب أن تتبعها إجراءات صارمة وتشديد على الأجهزة الرقابية بالترتيب المنطقي وتكون الأفضلية لتطبيق قانون غسيل الأموال بعد البنك المركزي هي هيئة أسواق المال وديوان المحاسبة وجهاز المراقبين الماليين، مع ضرورة إجراء حصر شامل ومراجعة لكل القوانين والتشريعات المتعلقة بالأساس لمكافحة الفساد، مع إجراء تعديل تشريعي للقوانين التي لا تتزامن مع الأوضاع التي نمر بها.
ختاما: فإن تعزيز الإصلاح في نظام المراقبة الفعالة يجعلنا نصل إلى الشفافية المطلوبة داخل أجهزة الدولة كافة دون استثناء، ويجعلنا نقف عند الحد الذي يسمح للجميع بمراقبة كل مسؤول لنتمكن من الحد من سطوة النفوذ داخل المؤسسات العامة والخاصة والتي بات البعض يتفاخر بقدراته على اجتياز القانون، ماحيا فكرة وجود عقاب أو رقيب على أفعاله، فتصبح السلطات والنفوذ المكتسب للقيام بواجبات الدولة سلاحا ذا حدين، أما أن يكون أمانة يحسن استعمالها وتوجيهها لأداء المصالح العامة للدولة، أو يتجه للاستغلال تلك السلطات لتحقيق مغانم شخصية له أو لغيره.
[email protected]