[email protected]
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى سعت بريطانيا وفرنسا الى تنفيذ اتفاقية «سايكس بيكو» الموقعة بينهما عام 1916 والقاضية باقتسام الهلال الخصيب بينهما، على أن تشمل السيطرة الفرنسية سورية ولبنان وجزءا من العراق، والسيطرة البريطانية على مجمل مناطق العراق وفلسطين والأردن، وسُمي هذا بالانتداب!
اليوم سأقص عليكم قصة مشهورة عنوانها: «هكذا تزاح الكراسي»!
وهي تدور بين النقيب البريطاني كوبر فيبس كولز (1819 - 1870) وهو قائد في البحرية البريطانية ومخترع إنجليزي وكان مندوبا عاما في بومباي.
تدور القصة ما بين النقيب (كوبر) ومواطن أردني اسمه (الغربال) والقصة من واقع أيام الانتداب البريطاني، فلنقرأ أحداثها:
لم تكن المقاهي منتشرة في مدينة الزرقاء بالأردن أيام الانتداب البريطاني كما هي في وقتنا الحاضر، وكان مقهى النصر أشهر المقاهي في المدينة، والذي لا يبعد كثيرا عن محطة القطار.
وكان من رواد المقهى شبه الدائمين مجموعة من الشباب مفتولي العضلات، يقضون معظم وقتهم في لعب ورق الشدة، ولا يقومون بأي عمل إلا بعد موافقة زعيمهم، ومن صفاته أنه كان طويل القامة، وممتلئ الجسم، ذا شوارب معقوفة تكاد ترتبط بشعره الكثيف الطويل، كما أنه جريء إلى حد التهور، لا أحد يعلم اسمه الحقيقي، فالجميع ينادونه (الغربال).
في إحدى الأمسيات جاء إلى المقهى أحد الضباط الإنجليز، ووقع نظره على طاولة فارغة بجانب طاولة الغربال، سحب الضابط أحد الكراسي المتناثرة ليجلس عليه، ولكن الغربال أزاح الكرسي من تحته بخفة وبحركة سريعة، مما جعل الضابط الانجليزي يسقط على الأرض وقدماه ترتفعان إلى الأعلى، تعالت الضحكات والقهقهات في جوانب المقهى، نهض الضابط من فوق الأرض، ونفض الغبار عن ملابسه وشارك زبائن المقهى ضحكاتهم، وكأن شيئا لم يكن.
اقترب الضابط من الغربال ومد يده له مصافحا، وقال:
أهنئك على هذه الجرأة والشجاعة، كثيرون من أمثالك لا يملكونها، وأنت الوحيد المميز الذي قام بإزاحة كرسي من تحت ضابط انجليزي.
فوجئ الغربال بردة فعل الضابط، وأجاب:
لم أتوقع هذا الثناء والمديح.
وماذا كنت تتوقع؟
كنت أتوقع عراكا بالأيدي أو أقلها شتائم نابية.
أنا بصراحة معجب بك وجميع طلباتك من المقهى على حسابي الخاص، أنا محظوظ جدا بأن ألتقي شخصا مميزا مثلك.
أنا خادمك الغربال.
وأنا النقيب كوبر، هذا رقم تلفوني وأي مشكلة قد تقع فيها اتصل فقط على هذا الرقم.
شعر الغربال بنشوة غامرة كست عضلاته المفتولة، وبأن ظهره مسنود إلى خرسانة من الصلب، وبدأت تصرفاته الصبيانية تزداد يوما بعد يوم، وعندما تلقي الشرطة المحلية في مدينة الزرقاء القبض عليه دون أن يستطيع الإفلات، يتصل بالنقيب كوبر ويرد عليه:
أنا معك ودائما معك يا الغربال، تصرف كما تريد، وأي مشكلة تقع فيها سأقتلعك منها كما أقتلع الشعرة من العجين، ويأمرهم بإطلاق سراحه.
اعتاد النقيب كوبر في بعض الأحيان أن يأتي إلى المقهى ويلتقي الغربال، وفي إحدى المرات اقترب النقيب كوبر من الغربال، وهمس في أذنه:
تعجبني شجاعتك جدا يا الغربال وقد أحضرت لك مسدسا لحماية نفسك، لا تستعمله إلا عند الضرورة القصوى، أنا أثق بك ولا تخبر أحدا بشأن المسدس حتى لا تتم مصادرته.
أجابه الغربال بصوت منخفض:
شكرا لك سيدي، سأكون حريصا جدا وأعتبر هذا الأمر طي الكتمان.
كان الغربال من زبائن المزادات الأسبوعية التي تقام في وسط البلد بعد صلاة الجمعة، وكان إذا ما أعجبه شيء أخذه إما بالتراضي أو بالقوة، وفي أحد المزادات أعجبه معطف من الجلد الفاخر، بلغت قيمة المزاد عشرين دينارا، غير أنه لا يملك هذا المبلغ، افتعل مشاجرة واشتركت جماعات كثيرة في العراك، ولكنه اصطدم بأحد الأشخاص من طوال القامة، كان يفوقه طولا وبدانة، أصلع الرأس وكثيف الشارب، وقع الغربال على الأرض ولم يستطع النهوض ولم ير فوقه إلا سحابة سوداء تكتم أنفاسه فلم يستطع الحراك بحرية، حينئذ أخرج المسدس من جورب قدمه اليسرى وأطلق عدة رصاصات على الرجل الضخم الجاثم على صدره ليسقط أمامه مضرجا بدمائه، تعالت صيحات الهلع والفزع بين الجموع خوفا من الإصابة برصاصة طائشة.
اعتقل الغربال وزج في السجن بتهمة القتل العمد.
طلب الاتصال بالنقيب كوبر الذي بدوره قال له:
لا تخف يا الغربال، كما قلت سابقا أنا معك وسأبقى معك طوال الوقت، ولكن كما تعلم يجب محاكمتك ليأخذ القضاء مجراه، وأكرر يا الغربال بأني سأبقى معك.
استمرت محاكمة الغربال ثلاثة أشهر، وأخيرا أصدر القاضي حكمه بالإعدام شنقا على السيد الغربال، في صباح اليوم المحدد لتنفيذ الإعدام، حضر النقيب كوبر إلى ساحة الإعدام ومعه كرسي، طلب من الجلاد أن يقف المحكوم عليه بالإعدام والمدعو بالغربال على هذا الكرسي تحديدا، وبينما حبل المشنقة يلتف حول رقبة الغربال، اقترب منه النقيب كوبر وقال له:
هل تذكر هذا الكرسي يا الغربال؟
لا أذكره، أرجوك أنقذني أيها النقيب كوبر كما وعدتني وبأنك لن تنساني، ولن تتخلى عني أبدا.
هذا الكرسي هو نفسه الذي أزحته من تحتي في المقهى في أول لقاء لنا، وبالتأكيد لم أنسك.
ركل النقيب كوبر الكرسي بكل قوته بقدمه وهو يصرخ:
«هكذا تزاح الكراسي»!
٭ ومضة:
الذي يدرس التاريخ البريطاني يعي تماما أن هذا الانتداب خلال تمركزه وبروزه بعد الخلافة العثمانية ياما أجلس على الكرسي من يريد وياما أطار من لا يريد!
على العموم قصة النقيب كوبر والغربال مليئة بالعبر والعظات!
٭ آخر الكلام:
أنا أسميه هذا (الانتقام المر) الذي يعطيك الأمان ويجعلك مؤمنا له تماما ثم يعطيك الضربة القاضية في الظهر، فاحذروا الثعالب من البشر!
٭ زبدة الحچي:
هذه القصص والملفات تذكرنا بأن نحذر من عدونا ألف مرة وقد تسلم الجرة مرة، لكن الحذر الحذر من القادمات، وتعلمنا القصة ألا نأمن أبدا لعدونا الذي احتل بلادنا مهما تقرب لنا ولنكن على أهبة الاستعداد دائما واليقظة من مواطن الشك بالتمسك باليقين.
عبر التاريخ والأزمان كثير من العقلاء نظروا إلى الكرسي وقالوا له: أنا أشرفك لا تشرفني، فأنت زائل لا محالة وإن طال الزمن!
.. في أمان الله.