وإذا كانت الهدية مفتاحا من مفاتيح القلوب، فإن لها كبير أثر في استلال الشحناء والعداوة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «تصافحوا يذهب الغل، تهادوا تحابوا، وتذهب الشحناء»، وقد «ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، وفيه الأسوة الحسنة، ومن فضل الهدية - مع اتباع السنة - أنها تزيل حزازات النفوس، وتُكسب المهدي والمهدى إليه رنة في اللقاء والجلوس».
ولأجل ذلك فإن الهدية تسن للبر والفاجر، بل والكافر، سواء أكان محاربا أو مسالما، فقد هدى النبي صلى الله عليه وسلم هدايا المشركين، ومن ذلك قول علي رضي الله عنه عنه ان كسرى أهدى له صلى الله عليه وسلم فقبل، وأن الملوك أهدوا إليه فقبل منهم.
كما قبل صلى الله عليه وسلم هدية أكيدر ملك أيلة، فقد أهداه بلغة بيضاء وكساه بردا.
وأهدى إليه المقوقس بغلة، وقيل قدحا من زجاج، فقبل صلى الله عليه وسلم هديته.
قال ابن قدامة: «ويجوز قبول هدية الكفار من أهل الحرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية المقوقس صاحب مصر».
وكذلك أهدى ذي يزن ملك حمير في اليمن الى رسول الله صلى الله عليه وسلم حلة أخذها بثلاثة وثلاثين بعيرا، فقبلها صلى الله عليه وسلم وفي مقابلها كافأه النبي صلى الله عليه وسلم على هديته، فاشترى حُلة ببضعة وعشرين قلوصا، فأهداها إلى ذي يزن في اليمن.
كما أهدى النبي صلى الله عليه وسلم تمر عجوة إلى أبي سفيان، وهو بمكة قبل أن يسلم، وكتب إليه يستهديه أدما، فأهدى إليه ابو سفيان. وأهدى النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب حلة ثمينة، فأهداها عمر إلى أخيه بمكة كان يومئذ مشركا، وفي هذا «دليل لجواز صلة الأقارب الكفار، والإحسان إليهم، وجواز الهدية إلى الكفار»
ولما قدمت قتيلة ابنة عبدالعزى، وهي مشركة على ابنتها اسماء ابنة ابي بكر الصديق بهدايا ضباب وأقط وسمن، أبت أسماء أن تقبل هدية أمها وأن تدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عزوجل: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ـ الممتحنة: 8)، فأمرها أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها.
ولأجل هذا المعنى قال عبدالله بن عمرو لأهله لما ذبحوا له شاة: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».
وكما قبل النبي صلى الله عليه وسلم هدايا بعض المشركين من أهل الكتاب، فإنه رد هدايا غيرهم، حين رأى ما يستوجب ردها.
قال النووي: «قبل النبي صلى الله عليه وسلم ممن طمع في إسلامه وتأليفه لمصلحة يرجوها للمسلمين، وكافأ بعضهم، ورد هدية من لم يطمع في إسلامه ولم يكن في قبولها مصلحة، لأن الهدية توجب المحبة والمودة.
قال الطبري: إنما رد النبي صلى الله عليه وسلم من هدايا المشركين ما علم أنه أهدي له في خاصة نفسه.
قال القاضي: «.. إنما قبل صلى الله عليه وسلم هدايا كفار أهل الكتاب ممن كان على النصرانية، كالمقوقس وملوك الشام، فلا معارضة بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل زبد المشركين»، وقد أبيح لنا ذبائح أهل الكتاب ومناكحتهم بخلاف المشركين عبدة الأوثان».