جلس يحكي لي، والعبرة تخنقه قائلا: أبي الذي تحدى الصعاب، ركب البحار، قطف المحار، عبر الصحاري والبراري.. يبكي دموعه تبلل خديه.. مستحيل! لابد في الأمر جلل.
قلت له: ما بك يا أبي؟ هل تشعر بألم؟ رفع رأسه وحدق بي بعين غارقة بالدموع، وكأنه لا يستطيع الكلام ويده متكئة على جذع نخلة فارعة الطول، خضراء السعف، مليئة «بعثوق» البلح الأصفر الذهبي، يبكي بصوت مخنوق قائلا: «أم الخير» هذه النخلة، أجدادي زرعوا بذرتها منذ 400 عام، وآبائي سقوها بدمائهم وجلبوا لها ماء الحياة بسفنهم، ونحن حافظنا عليها بأرواحنا وما نملك.
هذه النخلة التي أكلنا منها، وفطرنا برطبها، وأكلت بهائمنا من نوى تمرها، ونسجنا وشبت مواقدنا من سعفها، وبنينا من جذوعها، كانت محرابا للعابد، وملتقى للعشاق، وملهمة للشعراء، وحائط مبكى للمظلومين، ألم يكرم الله النخلة؟ حين ولد المسيح عيسى بن مريم، تحت ظلها، وهزت مريم بجذعها لتأكل من رطبها، يا ولدي «وأنا أخو مريم» ما أوصيك على نخلتنا، إنها أرضي وسماي، بيتي، وقبري.
رد عليه ابنه: تبكي يا أبي لأجل شجرة، رد الأب: للأسف لا تعلم ما في قلبي وما يبكيني؟ ألم تسمع بجملة (المعنى بقلب الشاعر) إنها ليست شجرة، إنها «رمز» لما أقصد.. حزنت لما رأيت السوس بدأ ينخر فيها، ورأيت بدايات الجفاف بأغصانها، ورأيت ثمارها تسرق، وسعفها يتناقص، والفساد يزيد أكثر، قال الابن: حاضر يا أبي سأحضر لها مهندسا زراعيا من البلد الفلاني. صرخ الأب قائلا: لا، لا، إنهم أغراب لا يعرفون علتها، ولا يجرأون على ذكر مرضها، ولا يرغبون بشفائها. أنا ابنها، عشت بخيرها، أشعر بألمها، وأسمع أنينها، وأعرف دواءها، لكن لا أقدر عليه، وليس بيدي، إنه بيد من هم أكبر مني، الذين للأسف، ربما لا يشعرون بأوجاعها، ما دامت «تساقط عليهم رطبا جنيا»، يأخذون منها، دون أن يعطوها، جعلوا ثمارها «سبيل» لكل الدنيا، وأحبوا الإسراف والتبذير (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا).
يا ولدي أنا لا أخشى عليها الآن، لأن في جيلنا نحن بقية من أجدادنا، أخشى عليها من جيلكم وما بعدكم، جيل «الهمبورجر والكاكاو» جيل ضياع الهوية والنقاء، جيلكم الذي ينطق ألفاظا غريبة، جيل التزوير والتزييف، جيل هجين سكر مع ملح، نحن بحاجة إلى غربلة وتدقيق لنعرف انفسنا، ونعرف الصالح من الطالح.
يقول الخالق سبحانه: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) كنا نعرف بعضنا «من شعب أو قبائل»، أما اليوم فلا هذا ولا ذاك. ضاعت هويتنا، وسيتبعها ضياع المسؤولية، يليها ضعف الولاء، ثم يقال «سادت ثم بادت» أو «أثر بعد عين» لا قدر الله.
اليوم ربما هناك أمل بالإصلاح، ما دام جيل الصابرين والحكماء، أحياء، وهم من صانوا العهد، وحملوا إرث الآباء والأجداد، أما إذا تأخرنا، وأجلنا، وسوّفنا فسيصعب الإصلاح، ونفقد النخلة، عندها لن تنفعنا أموال اكتسبناها، ومجدا أضعناه، ولن نجد نخلة، كنخلة أجدادنا تعزنا وتكرمنا.
حفظ الله ديرتنا ونخلتنا من كل مكروه.
[email protected]