يزخر تراثنا العربي بفيض من النوادر الأدبية التي ما إن تقرأ الكثير منها حتى ينصرف ذهنك إلى واقعنا المعاصر، وتكاد تجزم بأنها ربما حصلت في تلك الأيام الخوالي من أجل أن تدون وتحفظ للأجيال اللاحقة، كي تسلي واقعهم وتروح عن صدورهم قليلا في ظل هذه الظروف المزعجة. في إحدى النوادر اللطيفة التي تروى عن الأطباء، يقال ان رجلا اشتكى إلى طبيب وجود آلام في بطنه، فسأله ذلك الطبيب عما أكله قبل أن تأتيه هذه الآلام فأجابه بأنه قد أكل رغيفا محترقا. فطلب الطبيب كحلا ليكحل به عين المريض، فاستغرب ذلك الرجل فعل هذا الطبيب وسأله مندهشا ان ما يشتكي منه هو وجع في بطنه لا عينه. فأجابه ذلك الطبيب بأنه يعرف علته، ولكنه علل ذلك بأنه يريد أن يكحل به بصره من أجل أن يبصر المحترق في المرات القادمة ولا يأكله.
يا ترى كم نحتاج هنا في الكويت من أطباء يتمتعون بهذا الحس الفلسفي، وكم نفتقد إلى ذلك المداوي الذي يقوم بالتشخيص الدقيق وملاحظة العلة بالبحث عن مسبباتها، واستكشاف الدوافع الذاتية التي جعلت من هذا المريض ألا يحافظ على صحته. لقد التفت ذهني إلى واقعنا الطبي السيئ الذي نعايشه، وذلك أثناء قرائتي هذه السطور عن صاحبنا الطبيب وصاحب الرغيف المحترق. فيا ترى هل مر أطباء ودكاترة هذا الزمان على جزء من هذا التراث؟ إننا نحتاج إلى أطباء يتمتعون بسرعة البديهة ودقة في التشخيص، ولا نحتاج إلى طبيب اعتاد على وصف عقار «البنادول» أو المضاد الحيوي المسمى «امكسولين». فهذان العقاران أصبحا هما اكسير الحياة الذي يصفه أطباء مستشفيات ومستوصفات الكويت، وأكاد أجزم بأن هذه الأدوية لم تعد تجدي نفعا ولم يعد لها أي تأثير بسبب تعود دمائنا وبطوننا عليها، بل أستطيع أن أزعم بأن ابتلاع كمية كبيرة منهما بقصد الانتحار لن يؤدي هذا الغرض. لدينا أطباء لا يسمعون إلى شكوى المرضى، فهم عباقرة يستطيعون تشخيص حالتك المرضية خلال ثوان يسيرة، ولدينا عظماء في الطب يستطيعون أن يعرفوا ما بك من علة من خلال نظرة واحدة. في إحدى المرات ذهبت إلى مستشفى حكومي بسبب نزلة برد، وكان هناك أحد الأطباء الذي تسلم وردية مع أحد الأطباء الآخرين في الفترة المسائية، وكان هذا الطبيب الجهبذ يهتم كثيرا بأن يستقبل أكبر عدد من المرضى خلال فترة لا تتعدى الخمس دقائق. تابعته وهو ينادي بصوت عال وفي حماسة تشبه حماسة الجندي في ساحة المعركة «اللي بعده»، وكأنه يريد أن ينتهي من استقبال المرضى بسرعة غير مسبوقة من أجل الدخول في موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية. هذا الطبيب استطاع تشخيص حالتي من غير تحاليل ومن غير أشعة أو قياس لحرارتي، أو حتى بدون وضع السماعة على صدري الذي كان يخرج صوتا يشبه صوت صفارة الأطفال ومن غير أن أكلفه دقيقة واحدة، طبعا هذه الدقيقة اشتملت أيضا على كتابته لوصفة العلاج. أين أنت يا طبيب الرغيف المحترق وأين هذا الكحل؟ أعتقد بأننا نحتاج لهذا الكحل، ولكن ليس للمرضى وإنما للأطباء.
[email protected]