أنوارعبدالرحمن
في مقالتي السابقة «عندما كنت حمامة» أتجول في سماء إحدى المدارس المتوسطة، توقفت عند المشهد الذي شد انتباهي من خلال أصوات الطالبات الخارجة من أحد الفصول، اقتربت من الباب لأعرف ما الذي يحدث بالضبط في الداخل، وإذ بي أفاجأ بوجود المعلمة التي فلت من يديها زمام السيطرة على الفصل رغم هيبتها ومكانتها، فالطلبة عادة يختبرون كل معلم دون أن يشعر منذ أول يوم لدخوله للفصل، فإن كان لا يستطيع أن يدير حصته باللطف والحزم فإن الوضع سيصير إلى فوضى، وسينتهي الوقت المحدد للحصة دون حصيلة علمية أو تربوية
توجهت بعدها إلى ممر الإدارة فوجدت إحدى وليات الأمور تجادل مديرة المدرسة التي استدعتها لأمر حساس يخص ابنتها، فهي ترى أن ابنتها «التي هي تربية يديها» لا يمكن أن يصدر منها العيب أو الخلل، بل إن الموضوع كيدي وملفق أو ربما يخص طالبة أخرى غير ابنتها، ورغم وجود إثباتات وشاهدات، إلا أنها تنكر وكأنها عالمة غيب وتدافع بشراسة عن ابنتها وكأنها منزهة عن الخطأ لمجرد أنها ابنتها التي تعرفها تماما كمعرفتها لنفسها، ولا تعلم بعض وليات الأمور حينما يقفن مثل تلك الوقفة فإنهن يزدن الأمر سوءا، ولا يعالجن الخلل بل يضعن الورود في طريق بناتهن ويسهلن لهن الدرب للاستمرار في الخطأ ما دامت الرقابة قد غفلت عن دورها، وأعطت الضوء الأخضر لهن من خلال الدفاع عنهن والتستر عليهن، تلك الأمهات لا يعين الأمور ولا ينظرن بواقعية وتفهم لوضع خطير قادم، إلا عندما يستفحل وتظهر رائحته على السطح، فيصبح كضربة عنيفة على الوجه ليست فقط لتوقظها من غفلتها، ولكن أيضا لتؤلمها وتوجع قلبها
نفضت جناحي ورحت أنظفه بمنقاري عند مدخل الساحة لآخذ قسطا من الراحة، فهناك صنبور يقطر منه الماء شربت منه نقطتين وقطعة صغيرة من الخبز تركتها إحدى الطالبات بالقرب من الجدار وجدت فيها ما أسد به جوعي، وبعد دقائق من السكينة شعرت بربكة وصراخ غير عادي عند أحد الفصول، طرت نحو مصدر الصوت ثم اقتربت من النافذة لاستطلع الأمر وإذا بطالبة قد أغمي عليها وسقطت ممددة على الأرض وزميلاتها يحاولن إيقاظها وإسعافها وسط بكاء البعض منهن، أما الطالبة التي تجلس بجانبها تستنجد الطالبات لإنقاذ زميلتهن التي تعاني من «الربو» ولم تجلب معها علاجها (البخاخ)، إحداهن أشارت عليهن بأخذها إلى غرفة الاختصاصية لربما تساعدها على تخفيف الأزمة، وأخرى تقول إن الاختصاصية نبهت عليهن من قبل بأنها ليست صيدلية متنقلة وأنه غير مسموح لها بإعطاء الطالبات أدوية قد تضرهن ولا تنفعهن، وعلى أثر هذا الصراخ والبكاء والجلبة جاءت المسؤولة عن هذا الفصل لترى ما حدث لعلها تحسن التصرف إزاء مأساة كهذه، لا أخفي عليكم شعرت بألم داخل نفسي فمثل تلك المواقف لا احتمل مشاهدتها، فأنا أعلم أن مآسي كثيرة حدثت ولم تجد لها من مسعف بسبب غياب ممرضة المدرسة التي كانت تعالج حالات مرضية كثيرة يوميا بما هو مسموح لها من إمكانيات بسيطة، ويبقى الأمر معلقا ما بين وزارة التربية ووزارة الصحة، لحين إقرار هذا المشروع.
انطلقت للأعلى بعد أن شاهدت سربا من الحمام لألحق بالركب، ولكن بعد أن تركت ريشة من جناحي امتنانا لإحدى المعلمات اللاتي قمن بإسعاف تلك الطالبة بإعطائها الدواء المناسب، دون الرجوع إلى أحد، فالمسؤولية إنسانية قبل كل شيء، وللحكاية بقية.. فتابعوني.