منذ فجر التاريخ والحروب قائمة، تدور رحاها بدوران النجوم في أفلاكها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. ابتدأت بين قابيل وهابيل، وسوف تنتهي بمعركة كبرى في آخر الزمان يقودها «المسيح عيسى عليه السلام» وينتصر فيها المسلمون على اليهود، وهي معروفة عند غيرنا بمعركة (ارمجدون).
وما بين هاتين المعركتين، قامت الآلاف من المعارك التي لها أهدافها المشروعة المحددة، وأطرها الإنسانية المقدرة، ومنها ما هو خلاف ذلك، من أطماع أرض وفرض سيطرة، سحق ملايين الجماجم وضرب للبنى التحتية، تدور أهدافها في بوتقة الماديات بعمومها ومثال ذلك «حرب طروادة» التي تعتبر من اضخم الحروب الأسطورية في التاريخ، ضرب فيها أشنع واقذع الأمثلة في التعاملات الإنسانية والأهداف النبيلة، حيث حاصر الاثينيون مدينة الطرواديين عشر سنوات، حتى تمكنوا أخيرا من خداع الطرواديين بالحصان الخشبي، وفي تلك الفترة من الحرب البائسة قتل وشرد الآلاف، وقد ابرزها «هوميروس» في إلياذته الشهيرة.
إن تلكم الحروب بمختلف توجهاتها وأهدافها، هي نسخة مصغرة من حياة الإنسان، فالحياة ساحة حرب عملاقة، تملؤها المعارك وتستخدم فيها مختلف الأسلحة الإنسانية.. هناك من يخرج في نهايتها وهو ممتن لكل التجارب التي منحته إياها، وهناك من يعلن استسلامه في إحدى معاركها ليعيش أسيرا للفرضيات والظروف التي تفرضها عليه الحياة... هناك من تكون أهدافه واضحه وغاياته مشروعة فيكون انتصاره مظفرا، وهناك من تكون غاياته قاصرة جدا واهدافه واهية وبالتالي تكون نتائجه وخيمة في نهاية المطاف حتى وإن حقق انتصارا في بادئ الأمر.
كلنا مقاتلون، شئنا أم أبينا، ولكن الفرق بيننا أن هناك من يحسن تدريب نفسه قبل كل معركة ويستعد لها بالسلاح المناسب، وهناك من يركن للدعة وينغمس في اللذات حتى إذا ما دقت طبول الحرب أسقط في يده وسقط عند أول المواجهة.
لا تيأس من خوض معارك الحياة، فلكل معركة غنائمها، وتلك التي تخسرها تقويك للمعركة التالية. إن كثيرا ممن انتصروا في معارك عظيمة حققوا ذلك بقوة إرادتهم لا بقوة أذرعتهم.
لو توقفت المعارك في حياة أحدنا لأصبحت حياته مملة جدا وباهتة، تتشابه فيها أيامه حتى يصير عمره كله يوما واحدا، كئيبا في أغلب الأحيان.
ليس بالضرورة أن تكون معاركك دموية، فالحب معركة بين الواقع والأمنيات، والنجاح معركة بين التشاؤم والطموح، حتى الإيمان معركة ممتعة لا يمل الإنسان من خوضها كلما ارتاد بحر المعاصي.
نحب المعارك لأنها تجعلنا نستخدم حواسنا كلها، تدفعنا لاستخراج طاقاتنا المكنونة، واكتشاف مواهبنا المدفونة، وفي المعركة فقط يقدر الإنسان المتعة التي يجدها في كل استراحة، فلولا المشقة ما استمتع الإنسان بالسعادة.
بعض المعارك تقربنا من الموت، تهز عروش الاستقرار التي تكدسنا عليها طويلا، وتقوض حصون الدعة التي نختبئ في داخلها، ثم تعرينا من مخاوفنا وتدفع بنا لنقفز من على حافة الجبل.
إن من يخشى السقوط لن يذوق لذة الطيران، ومن يخشى الموت لن يذوق طعم الحياة. المعارك تقربنا من الموت، تضعنا وجها لوجه مع النهايات، ثم تغرينا لصناعة بدايات جديدة.
ما اقترب أحدنا من الموت إلا صار للحياة أقرب.
ليس مهما أن ننتصر في كل المعارك، ولكن هناك معارك علينا أن نكسبها مهما كان الثمن، ليس لغنائمها أو لننتصر فيها، ولكن لنكسر حاجز الخوف الذي بداخلنا، فمن يتغلب على خوفه ينتصر قبل نهاية المعركة.