حازت جريمة غسيل الأموال الكثير من الاهتمام من قبل المشرع والعاملين في الحقل القانوني لما يتعلق بتلك الجريمة من آثار تترتب على ارتكابها. وذلك ما بينته الدراسات التي أجريت في هذا الشأن، والتي بان منها مدى الأضرار التي تلحق بالمجتمعات وتهدد أمنها.. وتضر أبلغ الضرر باقتصاديات الدول. وكان لنا الشرف بأن نكون أعضاء في تلك الدراسات وصياغة البيانات وتبيان مدى الضرر الذي تلحقه هذه الجريمة خاصة في المجتمعات الاقتصادية النامية. فإن كان المشرع في أي دولة من الدول لا يحارب محاولة الإثراء ولكنه يحارب فقط عدم مشروعية الطرق المؤدية إلى الإثراء فللأفراد الحرية في العمل والكسب والاتجار والاستثمار الذي يدر عليهم الربح.. ولكن ذلك جميعه مشروط بمراعاة الطرق المشروعة والتي لا تخالف نصوص القانون الذي هو شبه مغيب في مجتمعاتنا العربية ان لم تكن محمية. والسؤال الذي يطرح، من يمتلك المال الكاش وكيف يخبأ وكيف يستعمل وكيف ينقل وبعلم من وتحت أي غطاء؟ أسئلة عديدة تبطل مفعول مكافحة جريمة غسيل الأموال. كأن يقوم مواطن الدولة ورغبة في إعطاء أموال مصادرها غير مشروعة وإدخالها إقليم الدولة وإخفاءها أو العكس يرتكب الجرم في إقليم الدولة ويترتب عليه الكسب والثراء ثم يخرجونه خارج الدولة لإعطائه وصف المشروعية.
ان هذه الجريمة الخطرة والآثار السلبية لجريمة غسيل الأموال على الدولة وكما رأى الفقهاء تتمثل في أن وجود كمية هائلة من الأموال مع عدم وجود استقرار فيها حيث انها قابلة للحركة في أي وقت نتيجة خروج الأموال الخاضعة للغسيل في أي لحظة ودون سابق إنذار من أجل الاستمرار في إخفاء أصول تلك الأموال، من شأنه أن يؤدي إلى عدم وجودها في لحظة ما في البلد الذي كانت موجودة فيه وانتقالها إلى اقتصاد آخر دون أن تشكل أي قوة أو دعم لاقتصاديات البلد الذي كانت موجودة فيه مما يؤدي إلى إفساد المؤشرات التي يعتمد عليها برنامج السياسة الاقتصادية فإذا نظرنا مثلا الى لبنان نرى خطورة الأموال الكاش الموجودة بين أيدي المواطنين والسبب اعتماد لبنان بالدرجة الأولى على النفط البشري وهي رؤوس الأموال الضخمة التي تدر من المغتربين والذين تعودوا على اقتناء الأموال في المنازل فلا تندهش مثلا من شراء لبناني لمنزل أو شقة بالكاش والبائع يتصرف بالمبلغ بشراء شيء آخر مها علا شأن المبلغ وهكذا دواليك أين الرقابة سؤال يطرح. بينما في دولة مثل فرنسا فإن القانون من أين لك هذا واضح.
واقتناء المال الكاش يحمل صاحبه مخاطر جمة لذلك هناك صعوبة كبيرة في تنقل المال لأنه محفوف بمخاطر ضياعها. فما يحدث من مجرمي غسيل الأموال ان يقوم بعض الأشخاص بإنشاء شركات وهمية وصورية والتي لا تنتج ما ينمي الاقتصاد القومي للبلد وإنما بغرض مجرد غسيل الأموال حيث تفتقد تلك الشركات إلى الأهداف الاقتصادية القومية.
كما أنه من شأن ارتكاب تلك الجريمة خروج الأموال المكتسبة بطريق غير مشروع من الدولة مما يؤثر على وجود العملة الصعبة التي يحتاج إليها اقتصاد البلد. وهو ما يؤدي إلى إحجام المستثمرين عن الاستثمار في بلد تخرج منه العملات الصعبة. ومن شأن أيضا تلك الجريمة
الإضرار بأمن الدولة إذ انها وفي الأغلب الأعم من الأحوال تكون أثرا مباشرا لجريمة سابقة عليها وارتكبت ترتيبا عليها كأن تكون هناك جريمة مخدرات أدت إلى ربح الأموال فيقوم مرتكبو جريمة المخدرات بارتكاب جريمة غسيل الأموال من أجل إخفاء جريمة الاتجار بالمخدرات، أو جريمة رشوة أو أي جريمة أخرى يريد مرتكبها اخفاء مصدر الأموال المتحصلة منها، لذلك عرفت جريمة غسيل الأموال بأنها مجموعة عمليات معينة ذات طبيعة اقتصادية أو مالية تؤدي إلى إدخال أو ضم في دائرة الاقتصاد الشرعي وتكون رؤوس أموال ناتجة من أنشطة غير مشروعة تقليديا متعلقة بالمتاجرة بالمخدرات واليوم أصبحت نواتج كل جريمة جنائية ذات جسامة أو خطورة. فجريمة غسيل الأموال هي عبارة عن إضفاء صفة المشروعية على مال ناتج من جريمة وإدخاله ضمن دائرة الاقتصاد المباح فكل عملية ترتكب بهذا القصد تعد جريمة غسيل أموال، اذن جريمة غسيل الأموال جريمة عمدية يتطلب توافرها وجود ركنين ركن مادي يتمثل في نشاط إجرامي مؤثم عملا بنص القانون، بالإضافة إلى الركن المعنوي وهو قصد جنائي بتعمد ارتكاب الفعل مع العلم بنتيجته. ولكن الفقهاء القانونيين رأوا بالنسبة لجريمة غسيل الأموال وجود شرط مفترض يقتضي الأمر توافره قبل البحث عن توافر أركان تلك الجريمة وهو وجود متحصلات مالية ناتجة من جريمة فبدون هذا الشرط لا يصح الحديث عن أركان جريمة غسيل الأموال ونحن من مؤيدي هذه الفرضية لأن جريمة غسيل الأموال من الجرائم التخصصية التي تستلزم قدرا كبيرا من المتابعة والتحري واستكمال اجراءات البحث لكيلا يفلت أصحابها من العقاب بخطأ بسيط يرتكب، علما أن العاملين في هذا الحقل يكونون دائما أكثر دهاء وأكبر ذكاء.
المظهر الخارجي للجريمة هو الاعتداء على المصلحة التي يحميها القانون وهو سلوك أو نشاط مادي تترتب عليه نتيجة إجرامية يتطلبها المشرع الجزائي ورابطة سببية بين الفعل والنتيجة وهو ما يطبق على جريمة غسيل الأموال.. إذ بدون الركن المادي لا تقوم أي جريمة وقد عرف بأنه توظيف ما يتحصل من الجرائم من أموال أو تحويلها أو إخفائها أو تمويه تلك الأموال لإضفاء صفة المشروعية عليها، ومن صور السلوك المادي أو الركن المادي لتلك الجريمة في المادة الثانية منه:
إجراء عملية غسيل لأموال مع العلم بأنها متحصل عليها من جريمة أو متحصل عليها من فعل من أفعال الاشتراك فيها.
نقل أو تحويل أو حيازة أو إحراز أو استخدام أو احتفاظ أو تلقي أموال مع العلم بأنها متحصل عليها من جريمة أو متحصل عليها من فعل من أفعال الاشتراك فيها.
إخفاء أو تمويه حقيقة الأموال أو مصدرها أو مكانها أو طريقة التصرف فيها أو حركتها أو الحقوق المتعلقة بها أو ملكيتها مع العلم بأنها متحصل عليها من جريمة أو متحصل عليها من فعل من أفعال الاشتراك.
اذن جريمة غسيل الأموال هي النية أو القصد الذي يتحرك في نفسية مرتكب السلوك الإجرامي.. أو هي اتجاه إرادة الجاني إلى الفعل والنتيجة المترتبة عليه، وعرفته المادة 40 من قانون الجزاء القصد الجنائي بأنه اتجاه الإرادة نحو ارتكاب الفعل المكون للجريمة وإلى إحداث النتيجة التي يعاقب القانون عليها في هذه الجريمة.. وعناصر القصد الجنائي لأي جريمة هي العلم والإرادة، وبتعريفنا العلم هو ضرورة علم الجاني أن سلوكه معاقب عليه جنائيا وهو عنصر مفترض إذا لا يعذر شخص لجهله بالقانون، أما الإرادة فهي العامل النفسي الذي يحرك الشخص لارتكاب جريمته، وفي جريمة غسيل الأموال لا يتصور وقوعها إلا إذا كان الفاعل يعلم تماما أنها حصيلة جريمة أو فعل من أفعال الاشتراك فيها فلا يمكن القبول بتصور وقوع جريمة غسيل الأموال عن طريق صورة من صور الخطأ وبالتالي لا يتصور وقوعها بطريق غير عمدية.
لذلك فان مضار جريمة غسيل الأموال مدمرة بالنسبة لاقتصاد الدول النامية وحتى الاقتصاديات الحديثة والتي سوف نظهر ان شاء الله مخاطرها في تتمة لهذا المقال ومن ثم نشرح وبشكل موجز دخول عنصر غسيل الأموال كسبب من أسباب الأزمة الاقتصادية العالمية.
[email protected]