نحن في وطن يغتال الأحلام قبل ان تولد يا صديقي، وعن سابق إصرار وتصميم..
يمسك السجان حلمك ويجره رغما عنك، ثم يضع الحبل على رقبتك أمام الناس جميعا وينتظر حتى تمل ويمل منك الانتظار ويمل منك المتفرجون، فتسقط عن الكرسي من تلقاء نفسك منهيا حياتك وحلمك بمحض إرادتك مللا ويأسا..
قالها ثم أغلق باب السرفيس ومضى إلى سوق الخضار..
أبو مجد يستيقظ في السادسة صباحا ويخرج من بيته خلسة خوفا من إيقاظ أربعة أطفال تدثروا بلحاف أمهم الأربعينية لقلة المادة وعجزهم عن شراء وسائل التدفئة الحديثة..
درجة الحرارة تقترب من الصفر غير أن دفء القلوب يسعف في مثل هذه الحالات، رغما عنك طبعا..
يبعد الشارع الرئيسي عن منزل أبو مجد مسافة تقارب الكيلو مترين عليه ان يمشي تلك المسافة متمنيا قدوم إحدى السيارات المعدودة أصلا على أصابع اليد.
لا يخرج من بيته في هذا الوقت إلا المجانين.. قالها ثم اكمل دربه..
ينفخ في يديه المجعدتين اللتين أزهقتهما السنون، وخدشت جلده أشواك العمر وخضار السوق..
يعمل ابو مجد بائعا في سوق الخضار في مدينة طرطوس ولا بد من معركة الاستيقاظ صباحا والانتصار فيها للوصول الى السوق ليعمل بأجر يومي قدره 1000 ليرة سوريه ثم يعود في معركة المساء مرة اخرى متبقيا في جيبه ما يقارب الـ 700 ليرة بعد خصم أجرة الطريق..
مثقف حياتيا لا دراسيا، مؤلف لكتب مجتمعية ولا يهمه الترجمة، لا يعرف اللغات ولا يهمه سعر اليورو ولا الدولار، ما يهمه كيف يؤمن الخبز لليوم التالي..»
يتزاحم الناس والموظفون في كراج صافيتا للحصول على مقعد مناسب او غير مناسب حتى.. المهم الوصول الى طرطوس..
يصرخ السائق ويمد يده من النافذة رافعا صوت الموسيقى متباهيا بالسماعات الجديدة (كلفتني 75 الفا الله وكيلك) يقول لمنظم الدور في الكراج، ثم يغلق الباب الأمامي ويقفله محتفظا لنفسه بالمقعدين الأماميين لعل القدر يسعفه بصبية حلوة (على حد تعبيرهم جميعا)...!!
يجلس ابو مجد بعد الخروج بسلام من معركة الكراج ويجلس بقربه شاب برابطة عنق وبدلة رسمية ورائحة عطره تفوح في الأجواء، منمق الحديث ولبق الطلة، باين عليه ابن ناس..
يقول ابو مجد في نفسه..
الى الخلف قليلا طالبان من المعهد الفندقي يتهامسان عن اخر ما نشرته اليسا على الانستغرام..
و في المقعد الخلفي فتاة عشرينية تخبر صديقتها بأن رامي معجب بها جدا لكنه خجول قليلا.. مين رامي..؟
مطب..«يقفز الجميع بالهواء»
على الكرسي المتحرك عجوز تمسك بيدها ظرفا صغيرا كتب عليه دعوة الى حفل التأبين.. !
ينام في حضنها طفل لا يتجاوز عمره العشر سنوات يمسك صورة مكبرة لوالده الشهيد..
لكل منهم وجهته ولكل منهم عمله، يختلفون في كل شئ لكن يتشابهون بالهموم والمعركة الصباحية فقط..
بدأ الشاب بالحديث: منين انت عم..؟
من هون مو بعيد..
شكلك تعبان عم يلا هانت..
مبارح الأمم المتحدة قالوا:..
ينام أبو مجد من شدة التعب ويكمل الشاب نقاشه مع نفسه معتقدا أن هز رأس أبو مجد موافقة لما يدور من تمسيح جوخ وثقافة بالية.
يستيقظ ابو مجد على اثر مطب آخر في منطقة الصناعة.
ويستمر بهز رأسه ويستمر الشاب بإلقاء المحاضرة.. ثم حاجز للتفتيش على الهويات، نصف ساعة إلى 45 دقيقة، غير كافية لراحة جسد منهك لكن لا بأس ستعطيه القليل من السلام.
يصل السرفيس إلى الكراج يربت أبو مجد على كتف الشاب يهز رأسه مبتسما ويمضي إلى سوق الخضار.