عشرون عاما مضت، كأنها أيام أو بضع شهور، لاتزال تملأ الذاكرة بعشرات المواقف والأحداث الأليمة، غير أن ما يؤلم أكثر هو هذا التخاذل الحكومي الذي يكاد يتسبب في نسيان كل ما جرى، رغم أنه حدث جلل تجاوزت آثاره حدود الكويت لتصيب العالم العربي بأكمله بجرح غائر، ومع ذلك تقف حكومتنا عاجزة عن فعل أي شيء لتوثيق تلك التجربة ودراسة أحداثها وتفاصيلها والاستفادة من أخطائها ونقلها لمن لم يشهدها، بل إنها أصبحت تساهم بشكل أساسي في تشويه التاريخ وقلب الحقائق، لست مع التبكيت واجترار الماضي وإحياء حالة العداء مع العراقيين فهم أهلنا وجيراننا قبل كل شيء، ولكن ليس على حساب بلدنا، ولا على حساب التاريخ، لنسمي الأمور بمسمياتها ونتعامل معهم بعقول وقلوب مفتوحة ولكن على أساس الوضوح والحقيقة، على أساس أنهم اعتدوا علينا واحتلوا أرضنا ودمروها وقتلوا وشردوا وأخطأوا بحقنا، وعليهم أن يبادروا هم بتصحيح ذلك الخطأ والاعتراف به والاعتذار عنه وبذل كل ما يمكن لتأكيد تجاوز تلك المرحلة وعدم تكرار ما حدث، لا عيب في أن تعود الأمور إلى نصابها والمياه إلى مجاريها ونبدأ مع إخوتنا في العراق صفحة جديدة من العلاقات، ولكن مرة أخرى دون المساس بتاريخنا ودون تشويه للحقائق وتلاعب بالمفاهيم، ففي ذلك خيانة لكل التضحيات التي قدمت والدماء التي سالت من أجل الكويت
كان الفتى الذي لم يتجاوز حينها التاسعة عشرة من عمره قد اعتاد المبيت في منزل خاله الكبير مع بداية الاحتلال العراقي، وذات ليلة اضطر للعودة إلى منزل أبيه في وقت متأخر، كان جيش الاحتلال قد فرض حظرا للتجول لا يذكر بالتحديد متى يبدأ، في السابعة أو الثامنة مساء وحتى الصباح، وبطيش الشباب ركب سيارته ومضى وهو على ثقة بمعرفة طرق لا يعرفها العراقيون، غير أن المشوار الذي كان لا يتطلب أكثر من 5 دقائق تطلب منه ساعتين قضاها في هروب من دوريات «الأشاوس» الذين ملأوا البلاد بالرعب والخوف والجفاف، وصاحبنا لايزال يذكر وجوه العساكر الشاحبة بملابسهم الرثة وبنادقهم الجاهزة والمصوبة دائما نحو الناس، لايزال يذكر وجه ذلك المذيع المزعج في برنامج «حياكم الله» ويذكر اشمئزازه وشعوره بالانكسار والقرف كلما سمع صيحاته وهتافات الجنود معه: «ها خوتي ها «لايزال يذكر طوابير البشر على المخابز والتي كانت تبدأ مع ساعات الفجر، ولايزال يذكر «صديقه» وجاره إياد الفلسطيني عندما جاء مع 4 من الجنود العراقيين ليستولوا على سيارته الصغيرة، لايزال يذكر أنه خرج ذات مرة في الساعة السادسة صباحا وعاد في الثامنة مساء من أجل علبة واحدة من حليب الأطفال، ويذكر آلام غربته ونومه في الحدائق والمساجد عندما اضطر للخروج من بلده، ويذكر ذلك الدخان الأسود الكثيف الذي ملأ سماء بلاده بالظلام، ويذكر خروج الناس واستقبالهم للجنود بفرحة ودموع وبكاء وضحك وسجود وابتهال بعد التحرير، يذكر الكثير ولكنه يكاد ينسى لأن حكومة بلاده لم تفعل أي شيء لتوثيق تاريخها، ولا حتى بجدار صغير تكتب عليه أسماء من ماتوا من أجل الكويت!
[email protected]