عندما كانت الفلسفة هي الأساس، بلغت الحضارة اليونانية القديمة قمة مجدها، فأنجبت هراقليطس وسقراط وأفلاطون وأرسطو ومدارس فكرية قدمت للبشرية فكرا لايزال حيا حتى اليوم، وعندما تراجعت مكانة الفلاسفة وساد الفكر السوفسطائي انهارت الحضارة اليونانية ولم تقم لها قائمة منذ ذلك الحين. والتاريخ يعلمنا أن ما من أمة تقدم الشك على اليقين، وتقدم الشكاك الذين يقتاتون على «الهوامش» ويتصنعون المشكلات الصغيرة من تفاصيل التفاصيل على أصحاب الفكر، إلا ويصيبها مثل ما أصاب اليونان من تراجع وانهيار. فهكذا ضيعنا الأندلس بعد أن كانت الحضارة الإسلامية مصدر تنوير للعالم كله، عندما كان العلماء والمفكرون هم جلساء الملوك والخلفاء وهم أصحاب الرأي والمشورة. فالشك الذي قام عليه الفكر السوفسطائي لم ينتج شيئا ولم يقدم للبشرية ما ينفعهم ويعالج قضاياهم، تماما كما أن انشغال علماء الكلام في العصور الوسطى الإسلامية بصفات الله عز وجل وأسمائه وعرشه وانشغال الفقهاء بمسائل فقهية زائفة لم يقدم للمسلمين أي شيء سوى مزيد من التشرذم والانشقاق.
وما ينطبق على الحضارات ينطبق أيضا على الدول، فالكويت كانت رائدة في كل شيء على مستوى المنطقة، عندما كانت المكانة والحظوة والتقدير هي لمن يستحق من أصحاب الانجازات الحقيقية، ممن ينظرون لمصلحة الكويت بحاضرها ومستقبلها، ولكن عندما استبعد هؤلاء واقترب «الجهلة» واللصوص والمتنفعون والمتسلقون من صناع القرار شغلت البلاد والعباد بآلاف المشاكل الوهمية، وأصبحنا نقتات على «هوامش الهوامش» ونصنع من اللاشيء ألف معضلة ومعضلة، لا نترك شاردة ولا واردة إلا ونتناقش حولها ونحللها ونشكك في أصحابها ونمضغ تفاصيلها بمئات الندوات والمحاضرات والتجمعات والحركات والتكتلات ونستخرج منها آلافا أخرى من المشكلات التافهة، فما أكثر الكلام في هذا البلد وما أقل العمل، ثم نتساءل بكل بلاهة وغباء لماذا تأخرنا ولماذا تجاوزتنا بقية الشعوب والدول رغم توافر كل إمكانات التفوق والتقدم والنجاح؟!
نعم لدينا برلمان ولكن أعضاءه أصبحوا سوفسطائيين لا ينتجون سوى الشك والكلام، لدينا حكومة ولكنها مشغولة بتصنيف الناس وتقسيمهم وتقريب السفهاء منهم واستبعاد أهل الحكمة والرأي السديد، لدينا مئات الجمعيات المعنية بالرصد والرقابة والدراسات ولكنها لم تعد تقدم أكثر من القهوة والشاي لأعضائها في جلسات لا تختلف عن جلسات الديوانية، لدينا ثروة كبيرة لمساحة صغيرة وشعب قليل ولكنها تدار بعقلية لا تختلف عن عقلية رجل سفيه يبدد أمواله في كل اتجاه باستثناء الاتجاه الصحيح، لدينا شعب حر يملك حق الاختيار ولكنه يأبى إلا أن يكون أسيرا مقيدا لنائب يدفع عنه خمسة دنانير قيمة مخالفة مرورية ويوهمه بأنه قام بإلغائها. كلنا شركاء في صنع هذا الواقع المزري، فلم نقدم لوطننا ولأنفسنا سوى الكثير من الغثيان.
[email protected]