من مبادئ الاقتصاد، أن عجزا في ميزانية دولة ما يعني مباشرة فائضا في ميزانية دولة أخرى، ينطبق هذا على الاقتصاد الأميركي مقابل الاقتصاد الألماني والصيني بشكل خاص.
صادرات ألمانيا ضعف وارداتها، بينما العكس في أميركا، فهي تستورد أكثر بكثير مما تصدر، وتراكم الديون على نفسها بسبب ذلك.
ولهذا، سجلت ألمانيا في عام 2017 فائضا بقيمة 250 مليار يورو، بينما سجلت أميركا عجزا بقيمة 500 مليار يورو.
من هنا نفهم لماذا يتحدث الرئيس الأميركي ترامب عن «حرب تجارية» مع الاتحاد الأوروبي عموما، وألمانيا بشكل خاص، ومع الصين، ويسميها البعض بـ «الحرب العالمية الثالثة»، السبب أن ضعف اليورو واليوان الصيني أمام الدولار الأميركي جعل استيراد البضائع الأوروبية والصينية تقضي على كثير من الأعمال والصناعات داخل الولايات المتحدة، فما الحل؟ هل بمنع الاستيراد؟ لا تستطيع أميركا ذلك لأنه سيؤدي لمنع التصدير أيضا.
ما الحل إذن؟ الحل بالنسبة للرئيس ترامب كان بفرض «عقوبات جمركية» على البضائع الأوروبية والصينية بدرجة تجعلها في نهاية الأمر مساوية في قيمتها للبضائع الأميركية.
ولاحظوا أنها تسمى «عقوبات» وليس رسوما جمركية، والسبب أنها تتجاوز مفهوم الرسوم والهدف منها جعل السلعة المستوردة تساوي نفس السلعة المصنعة داخل أميركا، ولذلك اعتبرتها الصين والاتحاد الأوروبي إجراء عدائيا.
مثلا، صاحب مصنع دراجات هوائية في أميركا يبيع الواحدة بمبلغ 400 دولار تقريبا، لكن الصينيون لديهم أكبر مصانع دراجات هوائية، ويصدرون معظمها للولايات المتحدة ويبيعونها بمبلغ 100 دولار فقط، هذا قضى على المنافسة وقضى على صناعة صاحبنا الأميركي وتسبب في اغلاق مصنعه وتسريح عماله، وجعلهم يطلبون مساعدة اجتماعية من الحكومة بعد أن كانوا منتجين ويدفعون الضرائب.
لذلك، يريد ترامب فرض عقوبة جمركية على الدراجات الهوائية المستوردة من الصين بقيمة 300 دولار حتى تصبح قيمتها في السوق الأميركي بنفس الدراجات الأميركية، أي 400 دولار، وبهذا يحمي مصالح أصحاب المصانع الأميركيين من الانهيار، وينطبق هذا على بقية السلع المستوردة، ومنها السيارات والأجهزة الإلكترونية والمواد الغذائية وغيرها.
قد يبدو ذلك للوهلة الأولى أنه حل واقعي، لكن الحقيقة أن هذا الإجراء ـ والذي يسمى في الاقتصاد بـ «الحمائية» ـ يتعارض مع مبادئ وقوانين التجارة العالمية الحرة، ولذك اضطر الرئيس ترامب إلى الإعلان عن عزمه الانسحاب من اتفاقيات التجارة الحرة، الأمر الذي قابلته الصين والاتحاد الأوروبي باتخاذ موقف مشابه انطلاقا من مبدأ «المعاملة بالمثل»، فقاموا بفرض «عقوبات جمركية» عالية على البضائع الأميركية، ما أدى لكسادها وتوقف بيعها، وبالتالي توقف حركة استيراد البضائع الأميركية.
أدى ذلك بالتأكيد لخلل كبير في اقتصاد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين كذلك، لكن الصين تملك معظم سندات ديون أميركا، ما يجعلها في موقف تجاري أقوى، في حين تمتلك أميركا أوراق قوة سياسية وسيطرة على النظام الاقتصادي العالمي أكثر، فالنظام الاقتصادي العالمي مركزه في أميركا، والتعاملات الاقتصادية العالمية تجري بالدولار الأميركي، ومؤسسات النقد العالمية مقرها في أميركا، ولذلك تملك وحدها حق فرض عقوبات اقتصادية على أي دولة في العالم.
الوضع إذن أشبه بمجموعة من البلطجية الأقوياء يمسك كل منهم برقبة الأخر ويخنقه، وكل منهم بانتظار إشارة استسلام من الآخر، أو على الأقل أن يقول «سيب وأنا أسيب».
[email protected]