بقلم: طارق الفريح
«ثم صار المخ عقلا» للدكتور عمرو شريف، هو كتاب علمي فلسفي عظيم يتحدث فيه عن كل ما يخص قضية المخ والعقل، ويبحث عن موضع الحقيقة بين هذين الطرفين، وقد أحببت أن أنشر في زاويتي لهذا الأسبوع جزئية بسيطة من فصل «كيف يمارس المخ التعقل»، وهي جزئية تتحدث عن الإدراك ونظرية العقل:
هناك اتفاق بين علماء النفس التطوريين والتربويين على أن نظرية العقل «القدرة على تصور المدركات العقلية للآخر» تعتبر فرقا جوهريا بين الإنسان وغيره من الكائنات، كذلك هناك شبه اتفاق بين المتخصصين على أن معظم الحيوانات لديها معرفة بمحتوى عقولها، ويعرف هذا في فلسفة العقل بـ «المستوى الأول من الإدراك»، وإذا نظرنا إلى أطفالنا الصغار، نجدهم أيضا لا يدركون إلا ما في عقولهم «المستوى الأول من الإدراك»، وفي سن الرابعة يبدأون في إدراك أن للآخرين إدراكا وكذلك إدراك ما في عقول الآخرين، ويمكن تسمية ذلك بـ «المستوى الثاني من الإدراك»، ونستشهد على ذلك بملاحظتين:
٭ تبدأ الطفلة في وضع سيناريوهات تخيلية تفكر فيها بعقلية الآخر، فتدعي أن عروستها قادرة على شرب فنجان الشاي، فتقدمه لها وإن كان فارغا.
٭ عندما يخبرنا أطفالنا بشيء غير حقيقي (يكذبون)، يكون في داخلهم شعور بأن الآخر قد لا يصدقهم، لقد انتبهوا إلى أن للآخر عقلا يقبل ويرفض.
ويعتقد «روبن دنبر» وهو رئيس مركز أبحاث علم النفس التطوري والسلوك البيئي بجامعة ليفربول ببريطانيا، أن الشمبانزي قادر على المستوى الثاني من الإدراك، لذلك يعتبر البعض أن قدراته العقلية في مستوى عقل طفل في الرابعة من عمره، ولا شك أن في هذا القول كثيرا من التجاوز، أما الإنسان البالغ فيمكن أن تمتد به القدرة على الإدراك إلى عدة مستويات متصاعدة إلى ما لا نهاية، فيقول مثلا: «أنا أعتقد أنك تفترض أننا نريد أن نتأكد أن كل الآخرين يدركون أننا نريد منهم جميعا أن يعتقدوا أننا نعرف فيما يفكرون»، هذه سبعة مستويات، ويعتقد الباحثون أن الإنسان البالغ ذا القدرات العقلية المتوسطة يستطيع أن يدرك حتى المستوى الخامس، بعدها يفقد الشخص القدرة على التسلسل مع مدركات الآخرين العقلية تجاه قضية ما، ولنتأمل مثالا مع «عطيل» شكسبير: تصور شكسبير جالسا يكتب مسرحيته «عطيل»، إن أمامه ثلاث شخصيات محورية «عطيل - ديدمونة - إياجو»، شكسبير يريد أن يقنع مشاهدي مسرحيته أن الشرير إياجو يريد أن يجعل غريمه عطيل يقتنع أن زوجته ديدمونة تحب شخصا آخر، ومن أجل الحبكة، كان على شكسبير أن يضيف شخصية «كاسيو» الذي يدعي إياجو أن ديدمونة تحبه، ومن أجل استكمال الحبكة صور إياجو بخبثه لعطيل أن كاسيو يبادل ديدمونة حبا بحب، وأنهما ينويان الهرب معا، وهذا ما دفع عطيل لقتل حبيبته وزوجته المحبة ديدمونة، حتى الآن نحن أمام أربع حالات عقلية، نضيف إليها عقليتين أخريين، إنهما عقلية شكسبير الذي يريد أن يقنع عقلية المشاهد بالحبكة الدرامية، وإلا لسقطت المسرحية، إن شكسبير يتعامل مع المستوى السادس من الإدراك، فهو يريد أن يجعل المشاهد يصدق أن إياجو أراد أن يجعل عطيل يصدق أن ديدمونة أحبت كاسيو وأن كاسيو أحب ديدمونة، لقد نجح شكسبير بجدارة في أن يدفع المشاهد إلى أعلى قدر من الإدراك يستطيع أن يمارسه (المستوى الخامس بعد استبعاد إرادة شكسبير)، لذلك فقد استحق أن ينال ما نال من شهرة، وإذا تأملنا برهان القردة الذي يستشهد به «الدراونة» على إمكانية بزوغ الحياة عشوائيا، بأن يعتبروا أن عشرة من القردة لو جلست لمليارات السنين تدق على حروف آلة كاتبة، فإن أحدهم يستطيع كتابة مسرحية «عطيل»، وإذا افترضنا أن هذا المستحيل قد وقع، فلن يكون ذلك إلا حادثا عشوائيا لا يصل إلى المستوى الأول من الإدراك، فالقردة لا تدرك ما تفعل.
[email protected]
tareqalfreah@