ذعار الرشيدي
لا علاقة لي بما لا يصح أو ما لا يصح سياسيا في قضية تجنيس البدون، ولا علاقة لي من قريب ولا من بعيد بهواة قذف كرة الثلج المسماة «البدون» على ملعب السياسة، ولا أعرف من يستحق ولا من لا يستحق منهم الجنسية، ولا يعنيني الأمر، ولا أعرف حكاية إيقاف العمل بقانون تجنيس الــ 2000 المفترض الذي أقره مجلس الأمة وأطلقه ولسبب ما أجهله أيضا لم تمطر غيمة قانون الألفين إلا لعامين فقط وبعدها أجدبت الأرض، وتوقفت سماؤنا عن مطر «الجنسيات»، وتحول قانون الـ 2000 إلى غيمة صيف سياسية لا تمطر ولا تغني وتوقف كثير من المترقبين لمائها عند النظر إلى أعلى.
ما يعنيني حقيقة هو الوضع الإنساني لـ «فئة غير محددي الجنسية»، هكذا وصفهم المصطلح الأخير الذي تفتقت عنه أذهان مستشاري الحكومة القانونيين لأنه في الحقيقة مصطلح مطاط جدا فهو من ناحية لا يلزم الحكومة تجاههم بأي شيء كونه أخرجهم من أي تصنيف قانوني وتشريعي موجود أصلا، والأهم أنه لا يربطهم بأي شيء قانونا، وهو مصطلح أبصم أن مبتكره عبقري رغم كراهيتي الشخصية لمستشاري بعض الوزراء و«فناتقهم».
لم يكن الأمر يعنيني في يوم من الأيام ولم أضع أي نوع من أنواع الأولويات في حساباتي، فهم في النهاية «بدون» كما اصطلح على تسميتهم شعبيا، وغير محددي الجنسية كما صنفتهم الحكومة كفئة، حتى التقيت بأحمد (14 عاما)، يقف على بوابة أحد الأسواق التجارية الشهيرة فارشا أمامه مجموعة كبيرة من أشرطة الدي ڤي دي المنسوخة يتلقف بعينيه البريئتين المارة بحثا عن مشتر، اقتربت منه سألته عن أفضل الأفلام قال لي «لا أعرف... خذ ما تشاء... الشريط بدينار»، سألته عن مسرحيات محمد صبحي، قال بعد أن أطرق رأسه خجلا: «صدقني لا أعرف القراءة ولا الكتابة ولا أميز بين شريط وآخر».
وبعد أن استفسرت عنه أجابني بأنه لم يدخل مدرسة يوما، ولا يعرف من اللغة العربية حرفا واحدا، ولم يحصل على شهادة ميلاد في حياته أو أي مستند رسمي من أي نوع فكيف يمكن أن يدخل مدرسة.
وبعيدا عن روايات أن بعض البدون مزقوا أوراقهم وجنسياتهم الأصلية، كنت أمام طفل في بداية مراهقته لا يجيد القراءة ولا الكتابة، وبحسبة «بدو» وجدت أن هذا الطفل الذي لتوه بدأ أولى خطواته على أبواب المراهقة هو مجرد عينة من كتلة بشرية لا يعلم إلا الله عددها، كتلة بشرية عشوائية، تشابه في خطرها الاجتماعي على أصحابها وعلى البلد خطر العشوائيات في مصر، الحكومة قانونا وكما ورد في قراراتها و«فناتقها» خرجت من الالتزام بهم أمام الآخر وتحولوا إلى كرة سياسية تتقاذفها القوى بحسب اتجاه ريح السياسة، والحقيقة أنها أشبه بجرف جبل المقطم بوجود آلاف من الأميين من أبناء فئة البدون الذين حرموا من التعليم، وإلى الآن لم يحصل شيء والوضع طبيعي ولكن الكتلة البشرية العشوائية تكبر وتنمو وتتزايد دون وجود حل يلوح في الأفق، وكأننا بانتظار سقوط جزء من جبل مقطم الكتلة البشرية في كارثة محتملة لنصحو في يوم ما على «دويقة» من نوع آخر.
لابد من حل وحل سريع وناجع أيا كان توجهه واتجاهه، أن ترفض تجنيس البدون هذا أمر سيادي في النهاية وخاضع لقوانين وقرارات، ولكن أن تجعلهم يعيشون بلا تعليم وتزرع كتلة بشرية من الأميين بحرمان أفرادها من أبسط حقوق التعليم هنا نحن نرتكب كارثة حقيقية بحق بلدنا قبل أن نظلم البدون.
لا أعتقد أن حرمانهم من الحصول على ميلادية وبطاقة هوية وعقد زواج وحق في التعليم به رائحة من العدل، واسألوا أي طفل لم يدخل الروضة ليقول لكم «والله حرام».