يقول المؤرخ الفرنسي أرنست رينان: إن «من أغرب المدهشات أن تنبت اللغة العربية، وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمة من الرحل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها، وحسن نظام مبانيها، وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم علمت ظهرت لنا في حلل الكمال لدرجة أنها لم تتغير أي تغير يذكر، حتى إنها لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة، ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى، ولا نعلم شبيها لهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدرج، وبقيت محافظة على كيانها من كل شائبة».
ويقول المستشرق الأميركي كوتهيل: «قل منا نحن الغربيين من يقدر اللغة العربية حق قدرها من حيث أهميتها وغناها، فهي بفضل تاريخ الأقوام التي نطقت بها، وبداعي انتشارها في أقاليم كثيرة، واحتكاكها بمدنيات مختلفة، قد نمت إلى أن أصبحت لغة مدنية بأسرها بعد أن كانت لغة قبلية. لقد كان للعربية ماض مجيد، وفي تقديري سيكون لها مستقبل باهر».
هذه شهادات لأناس وعلماء ليسوا عربا، جاءت لتعطي العربية بعض حقها الضائع على يد أبنائها، وغير هؤلاء كثير شهدوا بفضل العربية واعترفوا بعظيم آثارها. أحببت أن أبدأ بهاتين الشهادتين حتى لا أتهم بالتعصب للعربية عندما أتطرق إلى فضلها وثرائها. ويكفي أن نلقي نظرة إلى معاجم العربية فسنجد ما تتمتع به لغتنا من سعة وغنى في الألفاظ والتراكيب والمترادفات على الرغم من انه لم يدون منها إلا ما كثر تداوله، ولم يستعمل من موادها إلا عشرة آلاف مادة، بينما تتألف هي من ثمانين ألف مادة.
وفي فترة من فترات التاريخ استطاعت العربية أن تنقل من بعض الحضارات عن طريق الترجمة والتعريب، كما حدث في العصور الوسطى عندما نقلت من حضارات اليونان والرومان والفرس في مختلف الآداب والعلوم، ولم تكتف بذلك بل إنها زادت على ما نقلته وطبعته بطابعها حتى أصبحت في عصور الحضارة الإسلامية لغة العلماء والأدباء والفلاسفة.
فلغتنا لغة غنية ثرية تمتلك ثروة كبيرة من المفردات وأنواع الاشتقاق والمجاز كما أنها تتميز بمرونتها في أساليب النحت والقلب والإبدال، وهو ما يصلح للأغراض العلمية والأدبية. ويمكنك أن تعبر عن المعنى الواحد بأكثر من أسلوب.
وليس أدل على غنى هذه اللغة من أنها وسعت كتاب الله «القرآن الكريم»، ومن أمثلة ثراء العربية أنك تجد للمسمى الواحد ربما مئات الأسماء، وهو ما لفت انتباه المستشرق أرنست رينان الذي قال «إن لغويا من العرب كتب في متن اللغة رسالة ذكر فيها 500 اسم للأسد»، والأمثلة كثيرة. إن عظمة العربية هي ما جعلت المستشرق الفرنسي أرنست رينان يقول عنها: إن «العلوم والآداب والحضارة مدينة بازدهارها وانتشارها للعرب وحدهم طوال ستة قرون».
وفي عهد الفتوحات الإسلامية واحتكاك العرب بغيرهم تمكنت العربية من التأثير في تلك البلاد لدرجة أنها حلت محل لغاتها الأصلية كما حدث عندما فتح العرب بلاد الفرس واعتنق الشعب الفارسي الإسلام، وأصبحت العربية اللغة الرسمية. يقول المستشرق الألماني نولدكه: «إن اللغة اليونانية لم تؤثر في الحياة الفارسية إلا تأثيرا سطحيا، ولكن العربية قد أثرت فيها كل التأثير». والأثر العربي واضح جدا في اللغة الفارسية وآدابها، فقد اتخذت الفارسية الحروف الأبجدية حروفا لها، واستعارت كثيرا من كلماتها وجملها».
وكثير من اللغات تأثرت بالعربية وأخذت منها مثل الهندوستانية والتركية المليئة بكلمات كثيرة أصلها عربي، بل إنها كانت تستخدم الحروف الأبجدية قبل عهد مصطفى كمال. وقد امتد تأثير العربية إلى أوروبا نفسها فنجد في الإسبانية والبرتغالية عددا كبيرا من الألفاظ والمصطلحات العربية، كما أن الانجليزية والفرنسية مدينتان للعربية بكثير من الكلمات.
[email protected]