كثيرة هي المحن التي يمر بها الانسان في حياته، وكثيرة أيضا هي المنح التي يعيشها ويتمتع بها، وقد تأتي المنحة من الله متسربلة في ثوب من الألم والمعاناة، يظنها الإنسان لأول وهلة من المصائب ثم ما يلبث قليلا ويكتشف أنها كانت نعمة ومنة منه سبحانه وتعالى، كم من أمر رجوت الله فيه ودعوته بإلحاح شديد أن يوفقك إليه ويقدره لك ولم يكتب لك فيه ما تمنيت وما رجوت فأصابك الهم والضجر وفتحت على نفسك أبواب «لو»، ورحت غاضبا تسخط لتكتشف بعدها أن الله عندما منع عنك ذلك الأمر إنما قد اختار لك الخير، وكم من ضائقة مررت بها من حرمان ومنع أو مرض أو فقر وعوز وكاد الهم والغم يقضيان عليك بسببها، ليتبين لك فيما بعد أن الله قد فاض عليك بمنح كثيرة في مقابلها، وكم من نعمة رأيتها عند غيرك من البشر فرجوت أن تكون عندك مثلها، وتجرعت حينها مرارة الحرمان، لتعلم بعدها أن الله عندما حرمك منها ومنعها عنك إنما قد اختار لك الخير.
عند المحن بعضنا يستسلم وتسود الدنيا أمام عينيه، فلا يرى إلا نصف الكوب الفارغ، ولا ينظر إلا تحت قدميه، وتصنع المحنة بينه وبين التفكير في الخلاص منها حاجبا وستارا أسود، وتكبله بأغلال لا يرى منها فكاكا، فيغمض عينيه عن كل بارقة أمل، ولا يرى بهما إلا اللون الأسود فقط، وبعضنا تكون المحنة والمصيبة طاقة أمل له، فيكتشف ذاته من جديد، وتفجر ما بداخله من مكنونات وطاقات لم يكن يعلم أن الله قد وهبه إياها، فيقبل على الحياة بفسحة من الأمل كبيرة وببهجة نفس تفتح له أبواب الحياة.
إن الذهب لا يكون على الشكل الذي نراه من لمعان إلا إذا وضع في النار حتى ينقى من الشوائب، وكذلك المحن تفعل بالإنسان.
كما أن الخبرات لا يكتسبها الإنسان من حياة الدعة والراحة، بل المصاعب والأزمات هي التي تشعل زناد الفكر فتعمل العقول وتنطلق البصائر، لتأتي بعدها المنح من الخالق عز وجل فيقوم هؤلاء ممن تجرعوا صبر المحن ومرارتها بأعمال لا يستطيع غيرهم فعلها فيضعوا أسماءهم وبصماتهم في كتاب التاريخ البشري ويقدمون للبشرية خدمات واكتشافات عجز غيرهم عنها، فأينشتاين ونيوتن أجمع مؤرخون على أنهما كانا يعانيان من صفات توحدية، والإمام الحافظ المحدث محمد بن عيسى الترمذي صاحب «سنن الترمذي» المشهور وأحد أصحاب الكتب الستة المشهورة في الحديث كان أعمى.
وكذلك أبو العلاء المعري الشاعر العباسي والفيلسوف والمفكر أصيب بالعمى وهو في الرابعة من عمره، والشاعر المشهور بشار بن برد ولد أيضا أعمى.
والأديب المصري المعروف مصطفى صادق الرافعي أصيب بالصمم في الثلاثين من عمره، وتوماس أديسون مخترع المصباح الكهربائي وغيره من الاختراعات كان يعاني الصمم أيضا، والاسكتلندي جراهام بل مخترع الهاتف كان يعاني عسرا في القراءة، وغيرهم الكثير.
هؤلاء لم ييأسوا إزاء محنتهم لوجود نقص فيهم، بل منحتهم المحنة إرادة وعزيمة ليقدموا لغيرهم من الأصحاء ما عجزوا عنه.
***
٭ أخيرا: أشد ساعات الليل حلكة هي الساعة التي تسبق طلوع الفجر، وعند المحنة يظهر صديقك من عدوك وتعرف محبيك من مبغضيك.
- قال أحد العلماء ناصحا: يا بني.. المصيبة ما جاءت لتهلك، وإنما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك، يا بني القدر سبع، والسبع لا يأكل الميتة، فالمصيبة كير العبد، فإما أن يخرج ذهبا أو خبثا.
[email protected]