ثورة.. وفي أوج الحرب الباردة و في الشرق الأوسط عند خط تماس نفوذ القوتين العظميين، حتما ستنتج زلزالا تصل هزّاته الارتدادية إلى عدة عواصم حول العالم.
كذلك كانت الثورة الإيرانية.
ذلك الحدث الجلل أسهم في توضيح الآفاق السياسية للإسلام، استعرض مدى قابلية الشعوب للانتفاض ضد حكامها، «عسكر» بعض الحركات الدينية، أذكى نار الخلافات بين أنظمة الجوار وأرغم المراقبين للمنطقة على إعادة تحليلاتهم لها ومراجعة استشرافهم.
كل ذلك على سبيل ضرب الأمثلة لا الحصر!
يبدو انه من الصعب في هذه الأيام أن يقرأ المرء شيئا عن إيران دونما تشويش عاطفي، سواء كان مستحقا أو لا.
إلا اننا «علينا دراسة التاريخ لتحديد المستقبل»، كما ينصح كونفوشيوس.
وتاريخ إيران الحافل بلغ من القدم عتيا، إلا أننا نستوقفه عند محطة الثورة فحسب علنا نفهم ما تلاها ويتلوها.
خصوصا فيما يتصل بروافد السياسة الخارجية.
حلت «الجمهورية» «الإسلامية» الإيرانية محل الأسرة البهلوية يوم بلغت الأخيرة عامها الرابع والخمسين في الحكم، حين استفادت الثورة من السخط الشعبي الذي لم تفلح في إخماده أبدا محاربة التعددية السياسية وتكبيل مؤسسات المجتمع المدني والاعتماد على عشرات ألوف «خبراء» أجانب ذوي حصانة ديبلوماسية.
ألهب السخط البذخ الذي لطالما جاء أيضا تفخيما لـ «تاج الطاووس» وعلى حساب «العمامة»، وقد تجلى أكثر التطفيف يوم أن استبدل الشاه تقويما إسلاميا بآخر ملكي فارسي يرجع إلى زمن كسرى.
شيئا فشيئا تحالفت الرموز الدينية مع التجار والمثقفين والطبقة المتوسطة، رغم تباين أجنداتهم، مطالبين بحقوق أساسية كحقي التظاهر والتجمع.. ثم مطالبين بالتغيير العارم.
في 1978 تحولت حركة المعارضة الإصلاحية المعتدلة إلى ثورة إسلامية جماهيرية تقلص و تضاءل فيها دور باقي أركان التحالف.
وفي نهاية المطاف، تبدلت النخب العسكرية والاقتصادية الحاكمة بنخبة أخرى وظهر على خارطة العالم كيان.. لازال تعريفه مثار خلاف!
اجتهد سكان القصر الجدد في مد نفوذهم على فضاءات المجتمع المختلفة من خلال ما شكلوها من لجان تنقية أو تنقيح أو تصحيح.
في أوائل الثمانينيات تلاشت تقريبا التعددية السياسية ويروى أنه لم يتبق إلا أقل من 15% من طلاب جامعة طهران على قيد الدراسة فيها وذلك بعد أن تم إغلاقها عاما كاملا حتى يتسنى لتلك اللجان أن تؤدي مهامها.
مع وزن إيران الاقتصادي وموقعها الجيواستراتيجي المهم ومقوماتها ومصادرها المتنوعة، مع الضعف العام في دول محيطها و تقهقر القومية، كان حتما على فائض القوة أن يتجاوز حدودها.
فقد أثرت مفاهيم الثورة على الفكر الإسلامي دوليا بالذات فيما يتصل بتلك المفاهيم المؤدية إلى التشكيك في شرعية الأنظمة الحاكمة، تأثيرا لا شك أنه تفاوت في دول العالم الإسلامي على حسب ظروف وبيئات كل دولة.
رغم تضاد الشاه والخميني، إلا أن كلا القائدين سعى لمد أذرع بلده ولو على أسس مختلفة.
فقد شهد التاريخ نشاطات إيرانية عسكرية، شبه عسكرية واستخباراتية توسعت جنوبا حتى الكونغو (زائير سابقا) وشرقا حتى فيتنام مرورا باليمن وباكستان وغيرهما.
هذا بالإضافة إلى منشآت بحرية في الموريشوس وتعامل باليوارانيوم مع جنوب أفريقيا.
مما دفع بأحد المحللين للقول إنه لا توجد دولة في «العالم الثالث» لها سجل من النشاطات خارج حدودها كإيران ـ بئا، فقد ورث نظام الثورة منظومة معقدة من المصالح والعلاقات والارتباطات الدولية.
بذات التعقيد كانت الأولويات الخارجية للنظام الجديد فقد اعتمدت أولا شيطنة الأنظمة المجاورة وتصدير الثورة إليها، فلما بلغت عقدها الثاني صار الاقتصاد وتنميته هما الأولوية وبدا وكأن مطلب تصدير الثورة تحول إلى مسعى لأن تُستورد من قِبل المستهدفين وذلك من خلال إرسال الوفود إليهم وبث البرامج الإذاعية باللغة العربية وغير ذلك من وسائل.
مع تشابك المصالح القومية مع الأفكار الثورية أحيانا، والتعريف المطاط لكليهما، زد على ذلك التشابك الهيكلي الغامض والذي يبدو معتمدا على أشخاص لا مؤسسات، فقد مرت السياسة الخارجية الإيرانية بتقلبات عديدة.
بيد أن هذا الوضع الخاص لم يقف حائلا، غالبا، دون أن تصافح اليد الإيرانية أيادي عديدة.
فيما يتصل بالخليج العربي، فقد صمم الخميني معادلة تؤسس أن أمن الخليج لا يتحقق إلا من خلال استقلال دوله والتزام «إسلام إيران الثورة» كمصدر التشريع وأن تكون بلاده هي الضامن للأمن.
ورغم تقديم المعادلة من باب حسن النوايا والتأكيد أن إيران لا يمكنها الانفصال عن جوارها أو التخلي عنه.
إلا أنها أفرزت، بشكل أو بآخر، الحرب العراقية الإيرانية وترتيبات أمنية مشتركة ما بين دول الخليج العربية الستة مع مصر وسورية، بمباركة أميركية، وقيام «مجلس التعاون» على خلفية لا تخلو من الحذر والتأهب.
ولم تستقبل المملكة العربية السعودية أي «رئيس» إيراني حتى بلوغ الثورة عامها العشرين.
أما في الشرق الأوسط عموما، فقد أولى نظام الثورة الأهمية للتواصل والتفاعل مع الشعوب لا مع الأنظمة.
وبرؤية أبعد من المنطقة، حدد الخميني سياسة تقوم على التخلي عن «الشرق» و«الغرب» معا.
و لعل تلك السياسة لم تفلح في التوصل إلى عالم لا - قطبي تسود فيها المبادئ الثورية، إلا أنها أربكت حسابات توجه السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة.
ورغم أن التوجه نحو الخارج كان محوريا وواضحا في فكر الخميني إلا أن الأخير أخضع إيران للعزلة بدواعي ضمان استقلال البلاد حتى 1984 حين أعلن النية عن إقامة العلاقات مع كل العالم عدا الولايات المتحدة الأميركية وجنوب أفريقيا و«الإسرائيليين»، إعلان كرر مثيله الرئيس خاتمي في 1997 حين أعلن أن شرط إقامة العلاقات هو الاحترام المتبادل.
الحقيقة المهمة أن إيران معزولة أو إيران غير معزولة فرضت وجودها.
فقد ظلت هاجسا و مصدر خوف عند جيرانها وعند الإسرائيليين والولايات المتحدة.
بالنسبة للولايات المتحدة، فقد خسرت حليفا استراتيجيا يجاور الاتحاد السوفييتي وصارت تكنولوجيا نووية، ولو تضاربت التقارير عن مراحلها، «في الأيدي الخطأ».
أما الإسرائيليون فد فقدوا الشريك الأوحد في الخليج آنذاك.
وصاروا يستعيضون عنه بنظام لا يخفي نواياه ضدهم بنفس انتقامي وبدافع أيديولوجي.
وقد أضاف الإيرانيون بعدا إضافيا على «الصراع العربي ـ الإسرائيلي» حين صاروا رعاة لحركات مقاومة.
وجاءت هذه الرعاية، بتكاليفها غير المرتفعة نسبيا، لتزيد من رصيد طهران في قلوب وعقول الشعوب العربية والإسلامية ولتؤتي أكلا استراتيجيا وفكريا وماديا على الأرض.
رصيد يتآكل إثر التعاطي الإيراني مع تبعات الربيع العربي.
مرحلة الثورة وما بعدها بقليل فقط حملت كل هذا الكم المهول من التقلبات.
كثير من الأمور تغيرت في إيران منذ اليوم الحادي عشر لهبوط طائرة الخميني وحتى اليوم.. تغير ما هو أكثر في محيطها حيث نعيش.
محيط لا يمكننا تغيير جغرافيته ولا تاريخه، ولكن يمكننا صناعة مستقبله إن فهمنا الآخر لا بمنظار العاطفة ولا بمقلة الطائفية ولا بنظرة الاستعلاء أو المظلومية.
في عصر الإعلام والتواصل والانفتاح.. إلخ، يلزمنا الاستفادة من تلك الوسائل في تمحيص جيراننا حتى يبقى حينا حيا!
كلمات أُخر
في 2009، سجل البروفيسور anoush ehteshami ملاحظة ان «طهران اليوم تبدو أقل استعدادا، من أي وقت منذ الثورة، على تحديد مسار جديد لها في العالم، فهي مترددة تشك في الدور الذي تسعى إليه وسياستها الخارجية موبوءة بالغموض وتقوم على نظريات المؤامرة».
بعد الصفقة النووية وبعد الأحداث الدموية المؤسفة في عواصمنا العربية، ها هم المراقبون للمنطقة يرغمون مجددا على إعادة تحليلاتهم لها و مراجعة استشرافهم!