يرى الباحث Brian Currid في كتاب له حول التحولات في الفنون الموسيقية كثقافة جماهيرية، أن الموسيقى لطالما كانت مكونا أساسا في تشكيل الهوية الوطنية للشعب الألماني.
والحقيقة أن نظام هتلر قد أدرك قيمة الثقافة والفنون والآداب عموما في التنشئة السياسية و«الوطنية» فدفع الجماهير إلى تطويعها للنازية وإلى استغلالها لنشر الأخيرة.
ومن المفارقة أن الطاغية ذاته قد كان فنانا (رساما)! تدريجيا، حول المجتمع بواسطة الثقافة والفنون والآداب التي أثر عليها وأعاد رسم ملاحمها.
لم يأت ذلك إلا بعد عمليات «تطهير» فرضت على كل مبدع ثقافي أن يسجل عضوية في مجلس الثقافة الحكومي، المتشعب الهيكل، إلا أن تلك العضوية لم تكن متاحة إلا للمنحدرين من العرق الآري.
كما أن ذلك المجلس وبالتنسيق مع الحزب مارسا السطوة لمنع أي عمل لا يتماشى مع النازية كأن يكون منتجا ثقافيا يهوديا، غجريا أو أفريقيا مثلا، بل إن حتى الفنون الكنسية طالتها مخالب النازية كما يورد Michael Meyer.
وتشهد حادثة حرق الكتب في 1933 في برلين على تلك الهجمة على الإبداع كما تشهد أكاديميات ومعاهد الفنون وما طالها من فصل قسري لأعضائها أو إجبارهم على الخدمة في الفرق الموسيقية وسواها.
كان التحدي هو نقل دماء جديدة للجسد الثقافي كما يصفه أحد مؤرخي النازية وهو تحد عسير في مسقط رأس «موزارت».
فالمنتوجات الثقافية كانت متنوعة رائدة متطورة وراسخة صعب منافستها أو استبدالها.
أما التحدي الآخر فكان في الحفاظ على مكانة البلاد الثقافية خلال هذه العملية، فخصص النظام موارد ومكافآت مالية مقابل مقطوعات عسكرية وقصائد حربية واستعراضات وكتابات تمجده وأفكاره وتطلعاته.
إضافة، فقد سيطرت النازية على الإذاعة من حيث صناعة أجهزة الراديو ومن حيث مواد البث فشجعت تصنيع أجهزة رخيصة الثمن ومنعت الاستماع للمحطات الأجنبية فصار «الراديو» أداة تنشئة سياسة واجتماعية أخرى.
إجمالا، كان «الصوت» محورا في عملية السيطرة، سواء كان قرع طبل، صافرة إنذار، أو صرخة تحية.
رغم تلك الجهود الكبرى وحشد الطاقات إلا أن الإبداع لا يزهر في أرض صلدة، فلم يبق النازيون إرثا ثقافيا للإنسانية بل جراحا وآلاما وعذابات تتذاكرها أبيات الشعر وتحفظها القراطيس.
كما أن نهب المتاحف واعتقال رموز الثقافة والآداب وحظر التنوع الفكري والأدبي كانت محطات في الطريق إلى الحرب العظمى!
لا ننادي أبدا بـ Gleichschaltung تهيمن على فضاء الثقافة والفنون والآداب بل بالاعتراف بآفاق ذلك الفضاء وبآليات توسعه وتدفع رواده نحو تحمّل واجباتهم بتدعيم الفضيلة ونشر التسامح وغرس قيم وصفات كالتضحية والبذل والاصطبار ورباطة الجأش والوطنية وغيرها.
إن على عاتق الدولة مسؤولية جسيمة في تغذية هوية المجتمع ورعاية المتميزين والمبدعين والحفاظ على الأصالة في مواجهة ما قد يشوب بعض المنتوجات الثقافية من تفاهة أو تحلل.
ولا شك أن في الإسلام سعة حيث انتشرت المنتوجات الثقافية من إسبانيا إلى الهند وأبعد من ذلك منذ القرن السابع الميلادي، فكرة تتجدد في الأذهان في عام فيه الكويت عاصمة للثقافة الإسلامية.
في وطننا الحبيب واحات نابضة حيوية من الإبداع الثقافي بشتى أنواعه، قادرة على إثراء حواسنا وعقولنا ومشاعرنا دون إسفاف ولا خلاعة.. فلطالما كان الشعر ديوانا للعرب ولطالما كانت العمارة سجلا للعصر ولطالما كان الكتاب خير جليس.
فهلا سقينا تلك الواحات؟!
كلمات أخر: شغلت عن هذه المساحة، فتأخرت بإرسال مقال، أيام حافلة جدا قضيتها في بنغلاديش.. بلاد تحيط بها الهند وترمقها الصين بينما لا نعلم نحن عنها للأسف إلا القليل أو السمج! لعلني أسطر عنها مقالا قادما بإذن الله.
[email protected]