إن من أعظم أهداف الرسالة المحمدية بناء الفرد الصالح والمجتمع الفاضل وفق المنهج الرباني بالتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل لإيجاد الإنسان الخليفة والأمة الربانية المتآلفة المتآخية المتوادة التي يعمل فيها الفرد لمصلحة الجماعة، والجماعة لمصلحة الفرد، في توازن وتناسق وتكامل يؤدي الى إيجاد المجتمع الفاضل والأمة الفاضلة والإنسانية السعيدة التي لطالما راودت احلام الفلاسفة والمصلحين والمفكرين عبر السنين، وظلت في عالم الخيال، ولم تتحقق في عالم الواقع إلا في ظل التربية القرآنية والقيادة النبوية.
فالأمة المسلمة ليست تكتلا او حشدا او كيانا عدائيا، تقيم علاقاتها بالآخرين على أساس الهيمنة والقهر العقائدي، بل هي في المفهوم الإسلامي مشروع راق للحضارة الإنسانية التي تجسد معنى الاستخلاف في الأرض، وهذا هو معنى «الخيرية»، التي هي مضمون حضاري يحقق، وليست لقبا يعطى أو صفة تضفى.
في هذا السياق، تناولت د. فاطمة عمر نصيف في كتابها "الأخلاق في الميزان" مفاهيم تتعلق بموضوع الأخلاق من زوايا عدة ستنشرها "الأنباء" تباعا في حلقات.
بعد أن ذكرنا في الحلقة السابقة 5 من ثمرات الالتزام بالمنهاج الأخلاقي، نستكمل اليوم حديثنا عن هذه النتائج الطيبة ونذكر منها ما يلي:
1 - الجنة وما فيها من نعيم: فالجنة جعلها الله ثوابا لأهل الفضائل الخلقية فهي مثلا جزاء لفضيلة الصبر، قال تعالى: (وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا) الإنسان: 12، ولفضيلة التقوى قال تعالى: (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا) مريم: 63، وفي هذا المعنى ورد في الأثر ان الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يدخل الجنة فقال: «تقوى الله وحسن الخلق»، ولفضيلة اتقان العمل والإحسان فيه قال تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا، أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا) الكهف: 30 ـ 31، أتقنوا عملهم واتقوا الله ورضوا بالحلال القليل فأحسن الله اليهم في آخرتهم وأكرمهم ونعمهم وكساهم حللا من الحرير وأساور من ذهب جزاء من ربك عطاء حسابا، بل وتفضل عليهم بما هو أعلى من الجنة وما هو أعظم وأقيم وهو رؤية الحق سبحانه وتعالى جزاء لإحسانهم لأن الإحسان هو قمة العطاء والفضل والمعروف، قال تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) يونس: 26، قال ابن كثير «الحسنى الجنة، والزيادة النظر الى وجه الله عز وجل»، وهل هناك إنعام يعدل هذا الإنعام او يطول هذا الفضل؟! هذا هو الإسلام دين مكارم الأخلاق يرفع من قيمة الخلق فيثيب على الإحسان هذه المثوبة الغالية لتكون خير حافز على التزام الحق والخير والعدل، الذي يثري الحياة ويرتقي بالأحياء.
2 - محبة الناس: من الحقائق المحسوسة والملموسة في عالم الواقع ان الإنسان إذا حسنت أخلاقه كثر أحباؤه وقل أعداؤه وزاد أصفياؤه ولانت له القلوب، وقد قيل: من لانت كلمته وجبت محبته، قال تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) فصلت: 34، وإن كانت هذه الفئة الخلوقة قد استحقت محبة الله كما بينت ذلك سابقا فإن هذا الحديث يوضح لنا كيف تتم المحبة لهؤلاء عند أهل الأرض بعدما تحققت لهم محبة الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال: اني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض». وكما قيل:
أحسن الى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإنسان احسان
بل ان مخلوقات الله جميعا تحب أولياء الله الذين تخلقوا بأخلاق القرآن، فتأنس بهم الجمادات والأرض والسماوات بعكس اعداء الله الذين يبغضهم الله وجميع خلق الله من إنسه وجنه وملائكته وحتى الجمادات (فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين) الدخان: 29.
آثار سوء الخلق
وكما يثبت الله عز وجل عباده المؤمنين الصالحين الأتقياء الذين حسنت اخلاقهم وطابت سريرتهم فإنه سبحانه شديد العقاب لمن ساءت أخلاقهم وفسدت ضمائرهم، فالله سبحانه لا يظلم الناس شيئا، فهو الحكم العدل يحب مكارم الأخلاق ويجازي عليها ويبغض سوء الأخلاق ويعاقب عليها، والله تعالى خالق الخلق ومربيهم وهو العليم الخبير بما يصلحهم، قال تعالى (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) الملك: 14، فهو سبحانه بمقتضى علمه وحكمته بأحوال خلقه يأخذ بمجامع النفس البشرية فيأخذها بالترغيب مرة والترهيب مرة، فالنفوس التي لا تصلحها الرغبة تصلحها الرهبة.
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما
فليقس احيانا على من يرحم
والقرآن الكريم مكيه ومدنيه يسير على هذه الوتيرة، وهو يعالج جميع القضايا: العقائدية والاقتصادية والاجتماعية.. إلخ. لذا فإن القرآن قد فصل وقرر ان لكل جريمة عقوبة مناسبة ليستوفي سيئ الخلق جزاءه، وينال المجرم الخارج عن القانون عقوبته، وليرتدع بذلك غيره.
ومن هذه الآثار ما يلي:
1 - بغض الله لهم وغضبه عليهم: جاء ذلك في قوله تعالى: (كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) طه: 81.
فالعدول عن الحلال الى الحرام والخروج عن امر الله مجلبة لغضب الله، كما ان بغض الله متحقق لمن ساءت اخلاقه، ومن ساءت أخلاقه فسدت أعماله فنرى بغض الله مع كل رذيلة خلقية.
فمع رذيلة الفساد قال تعالى: (إن الله لا يحب المفسدين) القصص 77.
ومع الظلم قال تعالى (انه لا يحب الظالمين) الشورى: 40.
ومع الخيانة قال تعالى (ان الله لا يحب الخائنين) الانفال: 58.
ومع الكبر قال تعالى (انه لا يحب المستكبرين) النحل: 23.
ومع الغرور قال تعالى (ان الله لا يحب من كان مختالا فخورا) النساء: 36.
ومع الإسراف قال تعالى (ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين) الاعراف: 31.
2 - إحباط العمل واكتساب السيئات: قال تعالى (يأيها الذين امنوا لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ان تحبط أعمالكم وانتم لا تشعرون) الحجرات: 2.
فسوء الخلق وسوء الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم أحبط أعمالهم، وكان سببا في ضياع جهدهم، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: (كالذين من قبلكم كانوا اشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون) التوبة: 69.
وعن اكتساب السيئات ورد قوله تعالى (والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما اغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) يونس: 27.
3- الخوف الشديد والفزع يوم القيامة: قال تعالى: (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون انما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار، مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد اليهم طرفهم وأفئدتهم هواء) ابراهيم: 42 ـ 43. ويصف القرآن فزعهم بقوله تبارك وتعالى (ولو ترى اذ فزعوا فلا فوت واخذوا من مكان قريب) (سبأ: 51.
4 - بغض الرسول صلى الله عليه وسلم لهم: قال صلى الله عليه وسلم «وان من ابغضكم الي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون».
5 - الخاتمة السيئة: يصف القرآن الكريم الخاتمة السيئة للذين كفروا بربهم واعرضوا واستكبروا عنه بقوله تعالى: (ولو ترى اذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وادبارهم وذوقوا عذاب الحريق) الانفال: 50.
هذه عاقبة الكفر والاستكبار وحتى الاستضعاف لا يقبله الله فجعل له نفس العقوبة، قال تعالى (ان الذين توفاهم الملائكة ظالمي انفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) النساء: 97.
6 - النار وما فيها من عذاب: جعل الله النار وما فيها من عذاب عقوبة عادلة لكل من اعرض واستكبر ولكل من أساء واستهتر والأدلة على ذلك كثيرة اسوق بعضا منها كقوله تعالى (ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالا وعدده يحسب ان ماله أخلده كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة انها عليهم مؤصدة في عمد ممددة) الهمزة: 1 ـ 9، فهذه رذيلة خلقية واحدة جعل الله عز وجل عقوبتها جهنم وبئس المصير.
كذلك نجدها عقوبة لرذيلة البخل ومنع الزكاة قال تعالى (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) التوبة: 34 (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم ووجوههم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) التوبة: 35، قال تعالى (وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما ارادوا ان يخرجوا منها اعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون) السجدة: 20.
7 - بغض الناس: ان من المسلمات ان سيئ الخلق مهما اوتي من العلم او من المال فإنه يكون مبغوضا من الخلق فالناس بطبيعتهم يكرهون بذيء اللسان قاسي القلب الجهول الظلوم البخيل الغضوب وينفرون منه، هذا بالإضافة الى ان بغض الله له مجلبة لبغض الناس له، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سبق ذكره: «واذا ابغض عبدا دعا جبريل فيقول: اني ابغض فلانا فابغضوه، قيل: فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض».
وعنه صلى الله عليه وسلم «ان ابغض الرجال الى الله الألد الخصم» وعنه صلى الله عليه وسلم قال: «ان شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه او تركه الناس اتقاء فحشه».
وهكذا تتضح معالم المنهاج الأخلاقي الرباني وما وضعه الشارع الحكيم له من ضوابط وما رعاه به من حدود وعقوبات صارمة لا رحمة فيها ولا رأفة بالجناة الذين لا يبالون بالقيم والمبادئ الخلقية حتى اتت تلك العقوبات ثمراتها الرائعة في المجتمعات التي اقامت حدود الله ورعتها حق رعايتها حيث اختفت الجريمة او كادت تختفي ورفعت الفضيلة رأسها وتوارت الرذيلة وبارت سوقها ووقائع المجتمعات التي تتمسك بالقيم الدينية وتقيم حدود الله خير شاهد على ما نقول.