تناول عدد كبير من المفكرين نظريات الحداثة والتخلف منذ زمن بعيد بالنقاش والتحليل والتفسير. بينما ذهب البعض منهم للتشكيك في مثل هذه النظريات حتى وصل الأمر لشيطنة البشرية بسببها، جنح البعض الآخر لتبني هذه النظريات كأسس معيارية لتقييم الشعوب والثقافات ـ من حيث التحديث أو التخلف ـ وما يعنينا اليوم هو تحليل بعض هذه الأسس ومناقشتها في ضوء واقعنا كمجتمع كويتي متطلع للتميز.
إن للحداثة معاني كثيرة وماهيتها كمفهوم قابل للنقاش والحوار، إلا أن ملامح المجتمع الحداثي قد اتفق عليها كثير من الباحثين ومن بينهم «فاغنر» ورفقاؤه، حيث وسموا المجتمع الحداثي بما يلي:
٭ العقلانية.
٭ التقدم الاقتصادي الاجتماعي والتخطيط للتطور.
٭ زيادة الإنتاجية.
٭ ارتفاع مستوى معيشة المواطنين.
٭ تكافؤ الفرص الاجتماعية والاقتصادية.
٭ فعالية المؤسسات الوطنية وأشكال تدخلها.
٭ الوحدة الوطنية واستقلالية القرار.
٭ الديموقراطية والمشاركة.
٭ الانضباط الاجتماعي.
وقبل مناقشة هذه الملامح أو السمات للحداثة ومدى انطباقها علينا كمجتمع فإن من الواجب استعراض سمات المجتمع المتخلف وملامحه حتى نستبصر موقعنا بين هذه الملامح والسمات. وكحال الحداثة فإن هناك عددا كبيرا من النظريات التي تناولت مسألة المجتمعات المتخلفة، وكثير من الباحثين ناقشوا التخلف المجتمعي أو المجتمع المتخلف وحددوا له جملة من السمات والملامح التي يتسم بها المجتمع المتخلف، ومنهم «ديتر نوهلن» حيث ذكر ما يلي:
٭ انخفاض مستوى الدخل الفردي.
٭ ارتفاع الاستهلال خصوصا المواد الأساسية.
٭ ضعف الادخار وانخفاض مستويات الاستثمار.
٭ ضعف الإنتاجية والاعتماد على الفلاحة.
٭ انعدام رؤية وإستراتيجية واضحة لكل القطاعات.
وبعد تقييم ذهني بسيط، يمكن لك عزيزي القارئ أن تتفق مع الدكتور عبدالجليل أميم حين وصف عموم المنطقة العربية بالتخلف، واعتقد أنك الآن قد حددت موقعنا في ظل هذه السمات، ولكن ما هو الواجب علينا كأفراد في المجتمع من أجل أن نحقق النهضة التنموية الحقيقة التي عجز عن تحقيقها أكثر من 250 مليون عربي، والتي مازالت دولنا الخليجية تكافح لتحقيقها مع هذا الكم الهائل من القدرات والإمكانات المادية والبشرية؟ أين الخلل؟
الخلل باختصار ـ بعد عناء سنوات من التحليل والتفكير ـ يقع على عاتق الحكومات التي عجزت عن تحقيق أي إصلاح اجتماعي يقود لتعديل سلوكي وتعزيز قيمي لدى الأفراد. إن الشأن الاجتماعي وتداخلات القضايا السياسية وضعف الهياكل البنائية الاقتصادية لدولنا تبقينا في فلك سمات المجتمعات المتخلفة، وهذه القضايا تحتاج ثورة اجتماعية ثقافية تتعزز معها الاتجاهات نحو العمل والعطاء، حتى نصل بالفرد إلى قمة عطائه.
تركيزي اليوم على الشأن الاجتماعي والمجريات الاجتماعية هو لتسليط الضوء على القوه الكامنة للشأن الاجتماعي في تشكيل تفاصيل حياتنا اليومية، وقد ذكر الشأن الاجتماعي في ثلاث سمات من سمات المجتمع الحداثي. فنحن كشعوب ـ وللأسف ـ ننقاد اجتماعيا، وللجوانب الاجتماعية أثر كبير في تحديد ملامح يومنا، فمثلا أكثر قضايا الفساد بمنطقتنا الخليجية تقع في فلك الضغوط الاجتماعية (هذا ولد.. وهذا ولد الشارع)، وأصبحت العلاقات الاجتماعية أساسا لأي نجاح عملي أو استثماري وحتى أمني. لذا فإن أي إصلاح متطلع إليه يتطلب رسم إستراتيجية شاملة تناقش الجوانب الاجتماعية والثقافية للمجتمع، وأي إستراتيجية غير تحويلية ـ تعدل سلوك واتجاهات الأفراد ثقافيا واجتماعيا ـ لن يكون لها أثر حقيقي في التنمية في الدول.
إن الثورات التي غيرت مجرى التاريخ كانت في أساسها ثورات ثقافية، علمية، اجتماعية، سلوكية، فالثورة الصناعية التي حدثت مجرياتها بالقرن الثامن عشر، حملت في طياتها تفاصيل تؤكد على حدوث تغييرات اجتماعية وسلوكية ظاهرة لدى الافراد، وانطلق معها المجتمعات الأوروبية إلى فضاء الحرية الفكرية والممارسة الثقافية وهي مازالت تتنعم بالانعكاسات الإيجابية للثورة الصناعية.
بالمختصر، ما تحتاجه الكويت وباقي الدول العربية، هو ثورة اجتماعية ثقافية مدروسة ومخطط لها حتى تنتقل من خانة المجتمعات المتخلفة إلى واحة الحداثة.
dralsharija@