قبل أيام خلت مررت على رهط من الأصدقاء حيث وجدتهم وكأن على رؤوسهم الطير ينتظرون للاستفسار عن أمور شغلت خلدهم، وبعد التحية سألوني، وعلى محياهم تعجب وإيهام قد شغلهم:
نسمع ونرى ونعرف أناسا قد استعملوا كل طرق الغش وكل وسائل الخيانة، وكل تدابير السحت وأكل الحرام حتى انهم اتخذوا من السحر والشعوذة نهجا للحصول على مبتغاهم، نراهم في بحبحة من العيش وفي رغد من الحياة، وحباة في الاموال والانفس، والكثير من الناس يوالونهم ويخدمونهم كالعبيد. فهل هؤلاء يحبهم الله؟ قد ينجم عن ذلك آثام لا تحملها الجبال، وعلى نقيض ذلك نرى ممن يخاف الله ورسوله في ضيق من العيش، وأحيانا قلة في المال والاولاد، وهم ما انفكوا ركعا سجدا، وهل هؤلاء غاضب الله عليهم ؟ أو قد يكون ذلك، لا جرم انه ابتلاء وتكفير ذنوب.
فأجبتهم بأن ردودي ستكون، ليس من رأي أو انطباع شخصي، وإنما هي من الكتاب والسنة، وكما يلي:
٭ هنالك فرق بين النعمة والنعماء، فالنعماء هي ما يتباهى بها البعض ظاهريا وجليا، وكما هو في النوع الاول سابق الذكر. أما النعمة فقد تكون خافية، راضية بها النفس، وإن قلت لكونها من كسب حلال، وهذا هو من النوع الثاني سالف الذكر.
٭ يقول سبحانه: (وكل صغير وكبير مستطر)، فالباري عالم بالأهوال لديه ملائكة يكتبون كل ما تكسبه أيدي وأرجل وجلود الناس من خير وشر.
٭ كما يقول سبحانه: (وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون)، ممن هم على شاكلة النمط الأول.
٭ إن الله يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب ويعطي الآخرة فقط لمن يحب. فليس بالضرورة أن مرتكب الوزر يرضى الله عنه، بل سبحانه يملي لهم ليزدادوا إثما وغيا وطغيانا استعدادا ليوم التغابن. فليس لنا حق البتة في أن نتساءل أو نستنكر أو نستغرب فيمن يرزقه الله أو يحجب عنه الرزق.
٭ ولأختم لكم حجتي القرآنية بقوله تعالى في سورة المؤمنون: (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون).
وفي التفاسير، فإن الرسل وعلى رأسهم سيد الخلق عليهم الصلاة والسلام قد سلكوا نهجا بينا وكلمة واحدة ووجهة واحدة. أما الناس فقد تفرقوا أثناءهم وبعدهم الى طرائق قددا، وقطعوه في ايديهم قطعا، حيث كسب كل حزب بما اقترفته يداه، يمضون مرحا لا يفكرون في أمر، ولا يتلفتون لشيء، يغلقون أبواب النصح والحق، ويسدون نسيم العدل مغلقين شباك النور والهدى يعيشون مغمورين بها في مكتسباتهم من حرام وسحت، غافلين مشغولين بما هم فيه حتى يفاجئهم المصير بإتيان الموعد المحتوم. ويتهكم بهم القرآن ويسخر من غفلتهم، اذ يحسبون أن الاملاء لهم في الفرح - كقارون وسواه - في بعض الوقت وإمدادهم بالاموال والبنين، مقصودة لهم بالمسارعة في الخيرات وإيثارهم بالنعمة والعطاء، بل بشرهم وهم يصطرخون فيها بأن وراء ذلك - جملة وتفصيلا - مصيرا قاتما وشرا مستطيرا! فانفرجت أسارير الأصدقاء.. وقالوا كفيت ووفيت يا دكتور.
[email protected]