اختلط مفهوم الحرية عند الكثير من الناس، فرأينا الهتافات الرنانة مطالبة بالحرية، وأكاد أجزم أن اغلب من يطالب بهذا الشعار لا يعي ما يريد، غير مدرك أن عصر العبودية ولّى من غير رجعة، مفهوم الحرية واسع جدا بل هو مفاهيم، حرية الاعتقاد، حرية الفكر، حرية التنقل، حرية العمل، حرية المراسلات، حرية اقتصادية.. الخ، فاختلطت الأمور واختزلت هذه المفاهيم بنوع واحد وهي المشاركة السياسية (الحرية السياسية)، ان الناس تريد أن تكون جزءا من اتخاذ القرار، ولا بأس بذلك، ولكن دون تجاوز الأنواع الأخرى من الحريات وتدميرها من أجل هذا الشق من الحرية.
فرأينا دولا كانت قائمة وقوية أصبحت فاشلة، وشعوبها تتقاتل من أجل السلطة فضاعت البلاد وتاه العباد، وأصبحوا بلا مأوى، وثروات بلادهم تنهب وتباع بأبخس الأسعار، وعمّ الدمار والقتل، كل هذا من أجل السلطة، وكما قلت في بداية كلامي انه حق مشروع للشعوب المشاركة في القرار، بشرط الحفاظ على المكتسبات الأخرى من الحرية والحفاظ على أغلى وأهم شيء وهو الأمن والأمان، لأنه من غير الأمن والأمان لن يوجد أي نوع من أنواع الحرية غير الدمار.
السياسة فن الممكن، ومن هذا المنطلق يجب أن يكون هناك كسب المزيد من المشاركة السياسية بشكل نسبي وتدريجي، أي أن أكسب خطوة في هذا الاتجاه، نعم ولو خطوة واحدة أفضل من لا شيء مقابل الحفاظ على المفاهيم الأخرى من الحرية والحفاظ على الاستقرار.
الأمر الغريب، وهو أن كل من يطرح وجهة نظر، تخالف من يطالب بالحرية المختزلة بالمشاركة الشعبية في صنع القرار بشكل فوضوي وكارثي، وخارج الأطر الدستورية، توجه لهم شتى أنواع التهم المعلبة والجاهزة والمدروسة، فإما أن ترضخ لهم وإما انك عدو.
والأغرب من ذلك، هناك من يقول يعني تريدوننا أن نأكل وننام مثل الأنعام، ودائما ترددون الله لا يغير علينا، بس ملينا ونسوا قوله تعالى (وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها ان الانسان لظلوم كفار ـ ابراهيم: 34)، فنسوا بل تناسوا كل هذه النعم وكل مفاهيم الحرية من أجل المزيد من السلطة التي هي حق مشروع، بشرط عدم الإخلال بشروط الأطر الدستورية والقانونية وفوق كل هذا وذاك نعمة الأمن والأمان، والتي أصبحت عملة نادرة في محيطنا الإقليمي، بسبب التهور والرعونة، وضحالة الفكر السياسي وإن كان البعض لديه الخبرة في العمل السياسي منذ أمد طويل.
أصبح الطموح الشخصي للسلطة في غاية البشاعة، فإما أن آخد كل شيء وإما الفوضى، فانقلبت المفاهيم وأصبح هذا النوع من الحرية غاية شخصية وليس وسيلة من أجل مصلحة البلاد والعباد، والاستقرار.
وأخيرا اختم بهذه السورة الكريمة(لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) انظر أيها القارئ الكريم، إلى أن الأمن الغذائي (أطعمهم من جوع) وأمن البلاد (وآمنهم من خوف) هما من أهم مقومات الحياة والتي من دونهما لا وجود للحريات والاستقرار، بل ولا حياة طبيعية، إذن كل مفاهيم الحرية مرهونة بالأمن والأمان، وإلا لا قيمه لها.. والله الموفق.
[email protected]