من السهل جدا أن نكون صنيعة مجتمع، ومن السهل ايضا أن يشكل هذا المجتمع شخصياتنا ويبلور افكارنا وفق وجهة نظره، فنحن المتعاطون معه شئنا أم أبينا.
في بداية الصف الثاني الثانوي كان معي أحد الزملاء واسمه «علي» وهو شاب عربي من احدى الجنسيات القريبة، منا وكان أحد المقيمين بصورة قانونية ويحمل البطاقة المدنية للمقيم بصورة رسمية، شاب بجسم ضئيل ولا يتمتع بأي خصلة من الوسامة، مهادن الى حد الجبن، فقير جدا لدرجة أنك ترى ملامح كلمة الفقر بين عينيه، قنوع لا يريد إلا أن يكون أحد الطلاب الذين يحترمهم الناس فقط لا غير، فهو من فهم أن هذا هو مستواه المعيشي ورضي بذلك، إلا أن ذلك المجتمع لم يأبه لطلبه الصغير بل كان محط سخرية الكثير من طلاب المدرسة والكثير من خارج المدرسة، فاللبس بسيط جدا واللهجة التي يتكلم بها لا توحي للمستمع إلا بالتندر، فهو بين ارتكاز لهجته الأم في لسانه وبين تقليد لهجتنا المضحك من لسانه الغريب، والغريب في الأمر انني كنت من زملائه الذين يحبهم فنحن لم نكن نحرص على إزعاجه، وهو لم يعان إلا من الذين لا يقدرون إلا عليه.. ذلك المسكين، وبعد مدة من الزمن غاب عن المدرسة ولم يكن ممن يفقد حضوره، وعند عصر أحد الأيام وإذ به يطرق باب بيتنا ويطلبني للخارج، خرجت معه للساحة المقابلة للمدرسة الابتدائية التي كانت بالقرب من بيتنا، وبعد الكثير من الحديث غير المفهوم إلا انني استشعرت كمية الغضب التي كانت في داخله، وبعد ذلك طلبت منه ان يختصر.. علي ماذا تريد؟ فرد علي بجملة بسيطة ذات عمق لم استطع أن أفهمه ذلك اليوم، قال: سأكون شخصا آخر ولن أرحم أحدا وسأعمل على أن يعلم الكل أنني أقوى وأشرس من الكل. اعتقدت انه يمزح فهذا علي المنكسر الذي لا يريد ان يعلم بحضوره أحد حتى لا يتندر أو يتنمر عليه.
المهم ـ ولحداثة السن ـ أنني اتفقت معه على ضرب أحد التلاميذ المزعجين غدا عند خروجنا من المدرسة، وعند الصباح كنت أبحث عنه في المدرسة ولم أجده وفي نهاية الدوام خرجت وإذ بي أرى علي وهو يتأهب للانقضاض كالذئب وبلحظات لم أره إلا وقد انتقم من العالم بذلك التلميذ المزعج، حتى انني شاركت معه في بداية الهجوم ولم استطع إلا أن أخلص ذلك التلميذ من بين يديه في نهاية المعركة خوفا عليه من الموت أو الإغماء. فعلي مثل به شر تمثيل لدرجة أن أصحاب ذلك التلميذ نسوا أنني مشترك مع علي في بداية المعركة، وتتالت المشاكل من علي حتى كرهت أن يكون أحد المعارف أو أحد الزملاء، فقد وصل الى مرحلة أنه يسأل عن أقوى مراهق في المنطقة حتى يكسر شوكته ويهين المجتمع ككل بضرب ذلك المتنمر او من يعتبر نفسه شجاعا، وفعلا بنى علي لنفسه سمعة لا بأس بها بين أبناء جيله وكان أحد أشرس المراهقين آنذاك، إلا أن الاحتلال العراقي للكويت قطع التواصل بيننا ولا أعلم أي دار تؤويه الآن وأي بلد يسكن، إلا أنني ومن واقع التجربة علمت أن المجتمع المتصدع يصنع المجرمين ويصنع من الحنون شخصا مجنونا.. هل يذكركم «علي» بأحد؟ ألا يشبه الكثيرين ممن نعرف أو نسمع عنهم في المجتمع؟ كم عليا صنع هذا المجتمع؟ وكيف انتقم؟ وهل سيكتفي؟ وهل من الحكمة أن ندفع بالشخص الحنون الى الجنون؟ وهل هناك خطة لذلك أم أنها كما عهدنا عالبركة؟
[email protected]