يذكر أن رجلا كان له إلمام بعلم اللغة غير أنه لم يكن يجد حرجا في أن يفتي في كل شيء، فاسترعى ذلك انتباه بعض ذوي الفطنة من مريديه، فأجمعوا أمرهم على أن يختبروه، فانتحلوا كلمة لا أصل لها في اللغة (الخنفشار) فجاؤوا إليه وسألوه عنها، فما كان منه إلا أن قال دونما أدنى تلكؤ: هو نبات إذا رعته الإبل انعقد لبنها، يقول الشاعر:
لقـد عقـدت محبتكـم فؤادي
كمـا عقـد الحليب الخنفشـار
ثم استطرد فذكر كلاما لداود الأنطاكي وغيره فلما بلغ «وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم» استوقفوه.
إن ظاهرة الخنفشاريين من الممكن أن نقيسها بيسر، فقط سل نفسك هل سبق لك أن شاهدت لقاء لأحد رجال الدين سئل فيه سؤالا فكان جوابه لا أعلم وكم مرة كان هذا جوابه؟ إن كان قد أجاب به يوما ولا سيما على القنوات الإعلامية أمام أعين الناس ومسامعهم، بل إن كثيرا منهم كانت خنفشاريته سببا في شرذمة الأمة وسفك الدماء واستباحة الأعراض والأموال والتفجير والتهجير، فمثل هؤلاء الخنفشاريين لا يجد حرجا في تكفير الأفراد بأعيانهم وتبديعهم وتفسيقهم بعد الفراغ من تصنيف الجماعات واحدة على الأخرى، واللافت عند هذا النمط من الخنفشاريين برغم أن أصولهم واحدة ولكنهم على أشد ما يكون من التناقض بين فرقهم وطوائفهم.
إن القدرة على الخوض في شتى المواضيع والمجالات لمن لا يملكون ثقافة واسعة من خلال كثرة القراءة الواعية وطول ملازمة العلماء والمفكرين والمثقفين قدرة لا يملكها إلا الخنفشاريون وحدهم فهم الذين دونما خجل لديهم القدرة على الثرثرة التي تنثال علينا في كثير من وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في قضايا بالغة الخطورة كالعلاقة بين الإنسان وربه أو أمته أو وطنه أو أسرته، ولعل الخنفشارية تظهر بجلاء عندنا في القضايا السياسية وما يتصل بها، ولم يعد هذا مقصورا على المتظاهرين بالثقافة والعلم ولكن تجده عند عامة الناس لا لشيء سوى لدفع الشعور بالنقص، إذ يجب على الفرد عندنا أن يكون ضليعا في الشأن السياسي ولا يضيره بعد ذلك إن كان لا يحسن القراءة أو حتى أن يتحلى بآداب الحديث فضلا عن أن يكون ناجحا في حياته الشخصية، وإذا ما كان هذا الخنفشاري ذا علاقة بشخصية نافذة أو ذا لسان قادر على النطق ببعض المفردات الأجنبية فحينئذ ستكون آراؤه مسلمات بالنسبة لكثير من المستمعين.
إن ظاهرة الخنفشارية من الأمراض السارية شديدة الخطورة ويجب أن نحصن أنفسنا منها بالرجوع لذوي الاختصاص والعلم الراسخ فيه، وألا نجامل في قبول الآراء الرعناء والتخرصات والرجم بالغيب.. ويحسن بنا أن نختم هذا المقال بما جاء في سيرة الإمام مالك من أن رجلا قدم إليه من سفر فسأله نحوا من أربعين مسألة فأجاب عن ستة وقال في البقية لا أدري، فقال السائل وماذا أقول للناس الذين أرسلوني إليك، فقال له: قل للناس سألت مالكا فقال: لا أدري.
وقديما ذكر أن أفلاطون سئل عن الحياة، فقال: أتيت إليها مضطرا وعشت فيها محتارا وها أنا أخرج منها كارها ولم أعلم فيها سوى أني لا أعلم.
[email protected]