تتبين من خلال حال القطيع حصافة الراعي الذي يهتدي إلى المراعي الخصبة ويسوق قطيعه نحوها متجنبا المناطق الوعرة أو المحفوفة بالمخاطر، وكذلك من خلال حسن اختيار الوقت في رواحه وغدوه، ولا يمكن أن تلام القطعان البتة على سوء حالها من الهزال وكذلك لا تلام إذا ما عاثت بها الذئاب خلسة على حين غفلة من الراعي وكلابه، ولكن الذي يلام على ذلك كله الراعي، أما القطيع فلا عقل له ولا إرادة، لأنه يساس من قبل السيد الراعي وحماره وكلابه، وبدورها تجود القطعان بحليبها وبلحمها وشحمها وصوفها ووبرها وبفلذات أكبادها وبأزواجها وبأمهاتها وآبائها للرعاة الذين يحسنون إليها وكذلك الذين لا يحسنون على حد سواء بل إنها تحملهم على ظهرها إن أرادوا ذلك أيضا لأنها ملك الرعاة أو سادتهم الذين كلفوهم برعايتها ولم نسمع قط أن قطيعا من الضأن أو الماعز أو البقر اعترض يوما على سياسة الراعي بل إنها كثيرا ما تتناطح لأسباب شتى سوى هذا السبب.
فما من قطيع إلا وهو تحت رحمة الراعي إن خيرا فشبع ورغد وإن شرا فمسغبة ومهلكة.
وإن الذين احترفوا الرعي قرونا طويلة مازال يسكنهم هذا الشعور ولا يكاد يناطحك في حرف سلف من هذا المقال أحد منهم وقد راعني أمر الرعاة فيما ذهبوا إليه من تمجيد شخص رأس النظام في تركيا والنظر إليه بعين التقديس، دونما أدنى نظر إلى ذلك الشعب الحر الأبي الذي استطاع أن يؤسس نظاما بعيدا كل البعد عن سياسة الرعاة والقطعان، فأعاد الرأس بيديه بعدما تهاوى وأوشك على السقوط لأن هذا الرأس قد وضع بإرادة الشعب وبيديه في ذروة النظام ولا يمكن ولن يكون لكائن من كان أن يزيحه عن مكانه بغير إرادة الشعب.
ولو أنك لاحظت وتمعنت في كثير من الصور والمقاطع لرأيت العلم التركي هو المرفرف لا صور الرئيس فحسب، كما أنك إذا ما أمعنت المتابعة وجدت أقطاب المعارضة وقادة الجيش أشد تمسكا بالنظام الديموقراطي من كثير من مؤيدي شخص الرئيس وأتباع حزبه وأنهم هم الذين أجهضوا تلك المحاولة الانقلابية التي لم تعد تصلح إلا في أنظمة القطعان والرعاة والتي قاعدتها في الحكم أن من يمسك العصا يصبح هو السيد وينقاد له القطيع طواعية وينساق خلفه ولو إلى حتفه.
إن الرئيس التركي شخصيته جديرة بالاحترام وحزبه الحاكم له إنجازات عظيمة لا تنكر ولا شك أن لذلك أثرا رئيسيا في فشل الانقلاب ولكن حذار فإن من الحب ما استعبد وإن من الحب ما قتل!
[email protected]