كنت مدعوا من قبل أحد أبنائنا الطلبة لحضور حفل تكريمه وزملائه الخريجين من الثانوية العامة، رغبة منا بمشاركتهم فرحتهم، ولم ينغص علينا فرحتنا يومها إلا ذلك الكربون السام المنفوث في أجواء القاعة من الصغار والكبار فلا تستطيع أن تجد مكانا تشم فيه هواء نقيا صحيا، فطلبت من أحد منظمي الحفل أن ينبه الشباب إلى عدم التدخين داخل القاعة، فاعتذر بأدب وقال لا أستطيع لأن الكبار يدخنون!
ذكرتني هذه الحادثة بموقف مشابه حصل لي في مطارنا العتيد ونحن عائدون من دولة أوروبية لم نشهد في مطار تلك الدولة ظاهرة التدخين إلا في الأماكن المخصصة لها، أما في مطارنا وبمجرد وصولنا فحدث ولا حرج عن التدخين العشوائي ونحن ننتظر والزحام شديد حقائب سفرنا، فذهبت شاكيا لمسؤول صالة القادمين لعله يضع حدا لهذه اللامبالاة لمشاعر الآخرين من غير المدخنين بالتنبيه بأي وسيلة، ولكن صدمتي كانت أكبر عندما رأيته وبيده سيجاره، فأخبرته انني أتيته شاكيا ولكن الآن لا تعليق، ولم أجد وصفا يناسب هذه الحالة إلا بيت الشعر الذي يقول: «إذا كان رب البيت بالدف ضاربا.. فشيمة أهل بيته كلهم الرقص ».
ومما يؤسف له كثيرا أن هذه الظاهرة السلبية منتشرة بين شبابنا (أمل المستقبل) بنسب مخيفة كنت استشفها بسؤال طلبتي في كل فصل دراسي جديد، من منكم لا يدخن؟ لأني أعرف أن المدخنين يتحرجون من رفع أيديهم، فيرفع غير المدخنين أيديهم بكل فخر لأنهم استطاعوا أن ينجوا من هذه الظاهرة الجارفة، فكانت نسب المدخنين وللأسف تزيد في كل فصل دراسي عن الذي قبله وتتجاوز في أحيان كثيرة ٦٠% من عدد الطلبة في أغلب الفصول.
واستذكرت حينها حجم الحملات والجهود المبذولة والأموال المصروفة من قبل الدولة والمؤسسات والجمعيات المختصة للتحذير من مخاطر التدخين صحيا على الإنسان ووضع التشريعات والقوانين الرادعة له، إلا أن النتائج وللأسف عكسية، حيث إن الظاهرة باتساع وازدياد ولا أعرف السبب!، ولكن يبدو أن قاعدة «كل ممنوع مرغوب» منطبقة هنا! كما يبدو أن الإعلام الدعائي لهذه الآفة الخطيرة جعلها مخزنة بالعقل الباطن في أذهان شبابنا بصور إيجابية تحفزهم لتعاطيها والتفاخر فيها أمام الآخرين، اضف لذلك الضعف الشديد في تطبيق القوانين التي تم اعتمادها بهذا الشأن، حتى أصبح المسؤول عن تطبيق القانون هو نفسه مخالف للقانون ويدخن في مكتبه وعمله وأمام مراجعيه! فأغلب القوانين عندنا وللأسف لا تعدو حبرا على ورق.
وهذا يجرنا إلى موضوع أكبر وأوسع، وهو حقيقة وأسباب تراجع ترتيبنا بين دول العالم في المجالات المختلفة حتى أصبحنا في ذيل القوائم وفي مؤخرة الأمم، وسنعمل من أجل ذلك مقارنة بسيطة بين الشعوب التي تحترم نفسها وتطمح للمعالي، والشعوب التي لا تحترم نفسها ومصيرها الضياع والشتات بين الأمم.
ونقول الأولى تتصف بالآتي:
١- شعوب تحترم ذاتها باحترامها للأنظمة والقوانين.
٢- شعوب تعرف حدود حرياتها فلا تتعدى على حريات الآخرين.
٣- شعوب تحترم إرادة الأغلبية مهما كانت نسبة هذه الأغلبية، والأغلبية في المقابل تراعي الأقلية.
٤- شعوب تحترم تاريخها وتراثها وتفتخر به وتدافع عنه.
٥- شعوب تراعي عاداتها وتقاليدها وثقافتها وفق معياري الأصالة والمعاصرة.
أما الثانية فتتصف بالآتي:
١- شعوب تدوس على الأنظمة والقوانين ولا تعبأ بها.
٢- شعوب لا تعرف للحرية حدودا.
٣- شعوب لا تحترم إرادة الشعوب، والأقلية تريد أن تسيطر وتتحكم بالأغلبية.
٤- شعوب تخجل من تاريخها وتراثها وتتنكر له.
٥- شعوب انسلخت من هويتها بالمبنى والمعنى فلم تعد تبالي لا بعادات ولا بتقاليد.
فإذا اردنا أن نكون شعبا يستحق الحياة فلا بد أن نكون من الشعوب التي تحترم ذاتها وتحترم قوانينها وأنظمتها وتعرف حدود حرياتها، وذلك يتطلب سعيا وبذلا جادين صادقين منا كأفراد وكمؤسسات مجتمع مدني وكحكومات، مصداقا لقول الشاعر «وما نيل المطالب بالتمني.. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا».
awadh67@
[email protected]