سألتها: ما رأيك في هذه الجملة «حضر (المعلِّمِ)»؟
أجابت: أظن أن الصحيح «حضر المعلِّمُ».
ولماذا؟
٭ لا أعلم، مجرد احساس بأن هذا هو الصواب.
كنت سعيدة بجوابها. لم يهمني أنها لم تعرف السبب، لكن أسعدني الحس اللغوي السليم الذي جعلها تستنتج النطق الصحيح للكلمة، وإن لم تعرف إعرابها. وتلك هي السليقة اللغوية، أي: النطق السليم من غير تعلم. وهو ما درج عليه العرب، فقد كانوا يشكلون الكلمة بإعرابها الصحيح قبل ظهور علم النحو بفضل ملكة طبيعية امتلكوها فأطلقت ألسنتهم بالفطرة والسليقة. لم يعودوا إلى كتاب أو دروس أو دورات تدريبية في اللغة. وإنما مرجعهم في هذه المعرفة، وكما ذكر د.سعود عبد الجابر في كتابه فن الكتابة والتعبير: «ما اكتسبوه في بواديهم وصحرائهم من المخاطبات الشفوية وما قرأه عليهم رواة الشعر أو ما أسمعهم إياه الشعراء».
كانوا يدركون أن المبتدأ وخبره يرفعان، وأن الأفعال الخمسة ترفع بثبوت النون وتنصب وتجزم بحذفها. إلا أنهم أتقنوا ذلك بالتطبيق، لا بالتعريف أو ذكر القواعد.
ومما ذكر في ذلك، أن العالم اللغوي ابن جني في القرن الرابع الهجري أراد أن يتحقق من استعمال الحركات الإعرابية ما إذا كان عفويا أم مقصودا عند العرب، فسأل إعرابيا: كيف تقول: ضربت أخوك؟ فقال الأعرابي: ضربت «أخاك». يقول ابن جني: حاولت أن أحرف لسانه إلى الرفع ليقول «أخوك». فأبى، وقال: لا أقول «أخوك» أبدا. قلت: فكيف تقول: ضربني أخوك؟ فرفع «أخوك» بالواو. فقلت: ألست تزعم أنك لا تقول «أخوك» أبدا؟ فقال: اختلفت جهتا الكلام.
وهذا من الأدلة على أن العربي كان يعطي لكل موضع من الكلام حقه من التشكيل عن بصيرة فطرية لا تكلف فيها.
وإنما ظهرت الحاجة لأصول النحو التي وضعها أبو الأسود الدؤلي، حين اتسعت الفتوحات الإسلامية وكثر الدخيل من اللحن على اللغة، وتداولته الألسنة فعلق بها وجرفها عن أصولها السليمة، فاضطربت السلائق واهتزت وضعفت، وكان لابد من أيد أمينة مخلصة تمتد لتحفظ اللغة من تبعات هذا التمادي في اللحن واعوجاج اللسان.
ومع ذلك، وبالعودة إلى حال اللغة اليوم، فإنني لو كنت وزيرا للتربية، لأمرت فورا بإلغاء مادة النحو في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة، وحصرتها في الثانوية والجامعية، فالطفل ليس بحاجة لمعرفة أن هذا فاعل وذاك خبر كان، وليس بحاجة إلى حشو معقد ممل عسر الهضم يقف حائلا ثقيلا بينه وبين الغاية الأهم وهي التعبير بطلاقة وبفصاحة مبسطة، هو بحاجة إلى الاستماع للغة من منابعها الصافية ومحاكاتها من غير معاناة ولا مشقة، يحتاج الى القراءة ثم القراءة ثم القراءة ليحفر صور الكلمات بقوالبها ومواضعها الصحيحة في ذاكرته ويسترجعها وقتما يشاء بكل أريحية ويسر، حينذاك سيكون الطريق أمامه سهلا ممهدا لتعلم اللغة دون صعوبة أو ثقل.
وقد يأخذنا موضوع الاستماع هذا إلى أهمية توحيد نطق أصوات الحروف من مخارجها المميزة لها داخل الفصول الدراسية، بعيدا عن السليقة العامية المتباينة في كل قطر عربي، تلك التي ألقت بظلالها على ألسنة المعلمين والمعلمات، فتخبطت اللغة وحارت بين الذال والزاي، وبين الثاء والسين، وبين الضاد والظاء، وغيرها.
بيد أن هذا موضوع يطول شرحه. ولعلي أخصص له مقالا أسهب فيه بتناول جوانبه كافة. أما هنا فأختم بأن اللغة فيض من الحياة والجمال والعطاء، نريده أن ينساب بفطرية وسلاسة كالنهر الدافق على ألسنة النشء. وهذا لايتأتى إلا إذا عدنا إلى سليقتها في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، في تلك الأشعار العربية العذبة، والخطب البليغة، وجواهر الأدب العربي.. بلطائفه وطرائفه.
@dahshaton