فيصل الزامل
كان من شأن ابناء الخليج في الخمسينيات والستينيات - وحتى وقت قريب - انهم اذا اختلطوا بأصحاب «الايديولوجيات» في العالم العربي فانهم يسمعون منهم كلام التسخيط على اوطانهم «الثرية الغبية»، يقال لهم هذا الكلام بطريقة منمقة لا تستفزهم، «ظاهره» الطعن في الاستعمار الذي فعل كذا في فلسطين وسوّى كذا في «دنشواي»، و«باطنه» شيء آخر انكشف وافتضح دفعة واحدة عام 1990.
لقد استغرق استخراج تلك المشاعر الدفينة سنوات طويلة تمت خلالها تغذية جيل بأكمله بمشاعر العداء ضد مصالح وطنه وشعبه.
يقول العم عبدالوهاب الزواوي اطال الله عمره ومتعه بالصحة: في عام 1942 كان مدرسنا السوري واسمه يوسف العظمة يأخذنا في طابور رياضي في الصباح نركض في الشتاء البارد على ساحل البحر الى ان نصل بيت القنصل البريطاني، فيهتف هو «يسقط الانجليز، يسقط الانجليز» ونحن نردد وراءه «يسقط الانجليز» ويخرج القنصل في شرفة المبنى ينظر الينا وهو يبتسم.
لقد عشت جانبا من هذه التجربة مع بداية عملي الصحافي، حينما كنت أجتمع ببعض اهل «الايديولوجيات» فلا اخرج من اللقاء الا ورأسي قد تعبأ بالسخط على حضارة بيوت الطين المتخلفة، التي تعيش على نفط خادع وثروة زائلة، «وانتوا بعدكم شوي احسن من غيركم، هلق في شيء اسمو ديموقراطية وعندكم ولو انها صورية، بدك تشوف جماعة شخبوط وهالملوك والسلاطين شو عاملين في قصورهم، إشي عجب»!
فلما وصلت ايدي هؤلاء الى اموال النفط سرقته من حصة ابناء الشهداء الفلسطينيين وارامل قتلى الانتفاضة واعطوه لامثال «سها عرفات وجورجينا رزق»، وهكذا انتهى ذلك التشنيع على حضارة بيوت الطين الى احقر التصرفات وادناها!
لقد استكثر هؤلاء على ابناء الخليج حتى اسماء العائلات، فأقنعوهم في الخمسينيات بشطبها والاكتفاء بثلاثة اسماء، وكدنا نلبس «البدل» حتى تكتمل التبعية الايديولوجية التي ملأت الصدور، لتتبعها الصور والاشكال.
عندما لمس السلطان «قابوس» في مطلع السبعينيات تسلل هذه الروح الى الطبقة المتعلمة في بلاده، أقنع من بدأ في تبني هذه الافكار ان يذهب لاستكمال دراسته في «موسكو»، وهناك ادركوا معنى الحرية يوم ان رأوها تذبح في بلاد الاستخبارات وعرفوا الى اين تسير هذه النظريات، وكان للاكتشاف المبكر - في السبعينيات قبل سقوط تلك النظريات - اثره الكبير في بناء السلطنة التي ينعم اليوم بخيراتها ابناء هؤلاء واحفادهم.
انها تلك الاجواء في الاربعينيات التي عاشها د. احمد الخطيب مع وديع حداد وجورج حبش، وقال عن تلك الفترة «كان للجامعة الاميركية تأثير كبير في حياتي ومنهجية تفكيري، بين مجموعات سياسية متباينة من قوميين سوريين، وقوميين عرب وبعثيين وشيوعيين».
عندما اراد المستشار البريطاني «ويكلن» اخراجه من هذه الاجواء، هو بالذات، من دون بقية الطلبة من بيروت، وارساله الى مصر في عام 1943، «كان ويكلن يخشى ان اتأثر بالجو السياسي في بيروت والجامعة الاميركية» كما جاء في مذاكرته، لهذا راسل د. الخطيب الكويت، وعندما علم الشيخ عبدالله السالم برغبته في البقاء ببيروت عن طريق العم نصف اليوسف، الذي كان مسؤولا عن دائرة الصحة، لبّى رغبته، ونقل نفقاته الى ادارة الصحة بدلا من المعارف على ان يوقع عقدا يلزمه بالعمل في الصحة لنفس مدة الدراسة.
لم يكن الغرض من العقد هو استرجاع المصاريف، فهو امر لم يكن مطبقا على سائر الطلبة، ولكنه في جوهره عقد مع «الدولة» للنأي بها عن اجواء التسخيط على بلادنا، التي سادت تلك الفترة، ولهذا جاء في تلك المذكرات: «واثناء مرضه الاخير عام 1965 قال لي عبدالله السالم مداعبا: لقد اخللت بالعقد يا احمد، فقلت: كلها كانت ثلاثة اشهر الباقية».. لم يكن حديث عبدالله السالم عن المال وهو الذي فتح للناس خزائن الدولة، ولكنه كان يسأل عن شيء آخر، وهذا الامر له حديث طويل، وذو شجون، عانت منه الكويت حقبة سياسية بأكملها، ونشرت ثقافة سالبة افرغت اجمل المبادئ من جوهرها، وحولتها الى ثقافة المناكفة، التي استلطفها هو وآخرون، ودفعت الكويت ثمن هذا الاستلطاف «...» غاليا.