فيصل الزامل
في المعاملات المالية يوجد ڤيروس اسمه «شانت» يجد المرء تحركاته في المعاملات الصغيرة والكبيرة على حد سواء، فقد يخرج المرء من الجمعية التعاونية يتبعه الحمال، وقد اضمر النية ان يعطيه ربع دينار، فاذا بها تتحول الى مائة فلس عند السيارة، ومثل ذلك يحدث عندما تلتقي شركة بشخص للتعيين، فتمنحه وعودا براتب وبدلات، وعندما تبدأ اجراءات التعيين تتقصقص البدلات، ويتحول الراتب الى كلام جديد اقل مما سمعه في المقابلة «هذا راتب البداية، وبعد مرور ثلاثة اشهر يصبح كذا».. وتمر الشهور والسنوات، والمسكين قد تورط، حيث انه ترك عمله السابق ولا مجال للتراجع، اما الشركة فان باب التراجع عندها عما وعدت به مفتوح على الآخر.
سمع عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز ان والده يريد ان يجعل بستانا كبيرا يملكه وقفا على فقراء المسلمين، وكان يسمي تلك الارض «السهلة».
ذهب عبدالملك الى والده في فترة الظهيرة، استأذن من الحاجب، فقال له: «امير المؤمنين نائم الآن».
فراجعه عبدالملك بالكلام حتى احس به والده، فدعاه للدخول، قال عبدالملك: «بلغني انك تريد ان توقف «السهلة»؟».
قال عمر: «نعم، ان شاء الله». قال عبدالملك: «متى؟». قال عمر: «غدا ان شاء الله، أخبر فلانا الكاتب».
عبدالملك: «وما يدريك يا ابي انك تعيش الى الغد؟ وان عشت، ما يدريك ان نيتك تبقى على ما هي عليه؟».
عمر: «وماذا ترى؟». عبدالملك: «ارى ان تعلن ذلك بعد صلاة العصر في مسجدك، فتقطع على الشيطان الطريق».
عمر: «أفعل ان شاء الله» ثم اخذه وضمه الى صدره وهو يقول: «الحمدلله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على امر ديني».. وكان عمر لا يملك غير هذا البستان، ومنه عامة رزقه.
في واقعنا اليومي العشرات من الامثلة على ڤيروس «شانت»، واقصد به «شانت النية»، اي ساءت، الذي يتحرك في اللحظة التي يقرر فيها الانسان شيئا يتعلق بحقوق الآخرين، حيث يكون القرار الاول كريما سخيا، سواء لجهة التبرع او اعمال المعاوضة، كاستئجار شيء او توظيف احد او تكليف من يقوم بعمل.. الخ، جميع هؤلاء نرجو منهم منفعة ما، وفي حال هذا الرجاء يكون البذل سخيا لبلوغه، فاذا بدأت علاماته، او دخل من كلفناه في مرحلة اللاتراجع، تحرك «شانت» وأقنع «الضحية» بأن مجال التراجع كبير، فأنت لم توقع على كذا، ويمضي في اقناعه بمختلف السبل.
في الغرب يعتبرون الايحاء بالموافقة التزاما، ويسمونه عقد المصافحة، الذي يكفي وجود الشهود على اثباته حتى بغير اوراق، بينما لا تكفي في بلادنا الاوراق ولا حتى شهادة الشهود، والسبب هو قدرة «شانت» على ترتيب الامور واقناع من لا يحتاج الى اقناع لوجود بيئة مواتية.
اكثر اضرار هذا الڤيروس تصيب من يقوم بهضم حقوق الآخرين في شركة يملكها مساهم كبير، او اكثر، فاذا كان من يختلس المال قد انتفع به، وان كان حراما سحتا لا يلبث ان يحرق بيته، فان الاسوأ منه هو الذي يهضم حقوق الآخرين، كي يستفيد المساهم الكبير، الذي ربما لا يلحق ذمته وزر ذلك الفعل كونه لا يعلم به، ويكون الوزر على غيره والنفع المادي له.. ويبوء الفاعل بوزره!
كان التاجر الكويتي في الماضي يمتلك مناعة طبيعية قوية ضد هذا الڤيروس، والقصص في ذلك كثيرة، ولكننا اليوم نعاني من انتشار نقص المناعة في المعاملات المالية!